خيانة الذاكرة واستمرار الصمود: بين نكبة 1948 وطوفان الأقصى 2023
من الذي باع وخان؟ هل هو الفلسطيني الذي استبسل في الدفاع عن أرضه؟ أم من تقاعس عن دعم هذا الشعب وتركه وحيداً في وجه الاحتلال؟
لطالما كانت القضية الفلسطينية قضية مركزية في العالمين العربي والإسلامي، عابرة للحدود والأجيال، تعكس طموحات الشعوب إلى الحرية والتحرر من الاحتلال. ومع مرور السنوات وتوالي الأحداث الكبرى، من نكبة 1948 إلى النكسة في 1967، وصولاً إلى الصراع المستمر الذي شهد ذروته في 2023 مع "طوفان الأقصى"، نرى تكراراً للمشاهد المأسَوية ذاتها: تهجير، معاناة، خيانة، وصمود. لكن في خضم كل هذه المعارك، تبرز ظاهرة خطيرة تسعى لتقويض أساسات القضية الفلسطينية، وهي محاولات بعض الأصوات لنشر فكرة مفادها أن الفلسطينيين أنفسهم هم الذين باعوا أرضهم.
هذا المقال يحاول استكشاف هذه الفكرة المغلوطة، وتفكيك أسباب انتشارها، مع تسليط الضوء على خيانات أخرى تمتد من الماضي إلى الحاضر. كذلك، سيُبرز المقال دور المقاومة الفلسطينية في المحافظة على الهوية والنضال على رغم كل هذه المحاولات.
القسم الأول: النكبة والنكسة.. جذور المعاناة وأسباب الخيانة
تعود جذور القضية الفلسطينية إلى ما قبل نكبة 1948، بحيث تعرضت الأراضي الفلسطينية لمحاولات متكررة للاستيلاء عليها من الحركة الصهيونية، التي لم تكن لتنجح في مخططاتها لولا الدعم الغربي القوي، وخصوصاً من بريطانيا، التي وعدت اليهود بإقامة وطن قومي في فلسطين عبر ما يعرف بـ"وعد بلفور" في 1917.
عندما اندلعت حرب 1948، كان الفلسطينيون أمام قوة مسلحة متفوقة مادياً، مدعومة بالسلاح والتكنولوجيا الغربية. على الرغم من المقاومة البطولية التي أبداها بعض الفصائل العربية والفلسطينية، فإن النتائج كانت كارثية. تهجر أكثر من 700 ألف فلسطيني من ديارهم، وتحولت أراضيهم إلى مستعمرات إسرائيلية، بينما أصبح هؤلاء اللاجئون يعيشون في مخيمات بائسة في دول الجوار.
لكن، مع مرور الوقت، لم تقتصر المعاناة على التهجير وفقدان الأرض فقط. بدأت حملات التشويه ضد الفلسطينيين، متهمة إياهم بأنهم باعوا أراضيهم للصهاينة. هذه المزاعم كانت بعيدة كل البعد عن الحقيقة. لقد اشترت الحركة الصهيونية بعض الأراضي من مُلّاك غير فلسطينيين، لكن هذه النسبة لم تتجاوز 6% من مجموع الأراضي الفلسطينية. وما تبقى من الأراضي تم الاستيلاء عليه بالقوة العسكرية أو من خلال قوانين قمعية فرضتها السلطات الإسرائيلية بعد إقامة دولتها.
ثم جاءت حرب 1967، التي شهدت احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى القدس الشرقية. هذه النكسة لم تكن مجرد هزيمة عسكرية، بل كانت هزيمة نفسية كبرى للعالم العربي. رأى الفلسطينيون مرة أخرى أنفسهم وحيدين في مواجهة مصيرهم، بينما كانت الأنظمة العربية تعيش في حالة من التخاذل والتردد.
القسم الثاني: الخيانة المستمرة وغسل الأدمغة
مع مرور الزمن، بدأ جيل جديد في العالم العربي يشهد تغييرات جذرية في نظرته إلى القضية الفلسطينية. حملات التضليل الإعلامي المكثفة، والمدعومة من بعض الأنظمة العربية والغربية، نجحت في زرع بذور الشك في عقول الشبان العرب. تم تقديم الفلسطينيين على أنهم خونة، بائعو أرض، يستحقون مصيرهم الحالي.
هذه الفكرة المغلوطة لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت نتاج عقود من التلاعب الإعلامي والسياسي. فبدلاً من أن يتم التركيز على الجرائم الإسرائيلية، تم تحويل اللوم إلى الفلسطينيين أنفسهم. تم تهميش الدور الغربي والإسرائيلي في معاناة الشعب الفلسطيني، ليصبح الضحية هو المتهم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تنجح هذه الحملات في بعض الأحيان؟ الجواب يكمن في ضعف الوعي التاريخي والسياسي لدى بعض الأجيال الجديدة. فمن خلال تركيز الإعلام على قضايا جانبية وتهميش القضية الفلسطينية، يتم تغذية هذه الأجيال بمفاهيم خاطئة تجعلهم يشككون في عدالة قضية فلسطين.
إلى جانب ذلك، نجد أن بعض الأنظمة العربية المتواطئة مع إسرائيل ساه في انتشار هذه الأفكار. فمن خلال تطبيع العلاقات بالاحتلال، وتهميش المقاومة الفلسطينية، تم تقديم صورة مشوهة عن الفلسطينيين كخونة، في حين أن هذه الأنظمة هي من خان القضية.
القسم الثالث: طوفان الأقصى 2023.. إعادة إحياء المقاومة
في عام 2023، شهدنا اندلاع "طوفان الأقصى"، وهي عملية فلسطينية موسعة جاءت رد فعل على الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في القدس والأقصى، والممارسات الاستيطانية التي تتزايد يوماً بعد يوم. هذه العملية ليست مجرد رد فعل عسكري، بل هي تعبير عن غضب شعبي متجذر في عمق المعاناة الفلسطينية المستمرة منذ عقود.
"طوفان الأقصى" يمثل نقلة نوعية في المقاومة الفلسطينية. لقد جاء في وقت ظن فيه البعض أن المقاومة خفتت، وأن الفلسطينيين تعبوا. لكن هذه العملية أثبتت أن الشعب الفلسطيني لا يزال متمسكاً بأرضه وقضيته، وأن محاولات طمس الهوية الفلسطينية لن تنجح.
أعادت هذه العملية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى الواجهة العالمية، وذكّرت الجميع بأن القضية الفلسطينية لم تُحَل بعدُ، وأن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال قائماً. كما أظهرت هذه العملية الفارق الواضح بين من يقف مع الحق الفلسطيني ومن يخون القضية. ففي الوقت الذي دعم بعض الدول العربية المقاومة، بقيت أخرى متخاذلة، تلتزم الصمت أو حتى تدين الفلسطينيين بشكل مباشر أو غير مباشر.
القسم الرابع: الخيانة والخذلان.. من باع ومن خان؟
في ظل هذا الصراع المتجدد، تبرز أسئلة جوهرية بشأن من خان ومن تخاذل. من الواضح أن هناك أطرافاً متعدّدة تورطت في خيانة القضية الفلسطينية، سواء كان ذلك عبر تطبيع العلاقات بالاحتلال الإسرائيلي، أو من خلال نشر الأكاذيب بشأن بيع الأراضي.
الخذلان العربي لفلسطين ليس جديداً. فمنذ بداية الصراع، كانت هناك دول عربية تحاول استغلال القضية الفلسطينية لتحقيق مصالح سياسية خاصة بها. لقد شاهد الفلسطينيون بأم أعينهم كيف تحولت مواقف بعض الأنظمة العربية من دعمهم إلى محاولات تهميشهم وشيطنتهم. وعلى رغم ذلك، فإن الشعب الفلسطيني بقي ثابتاً، مستمراً في مقاومته ضد الاحتلال، مؤمناً بعدالة قضيته.
لكن، لا يمكن تجاهل الدور المهم الذي أدته مجموعة من الدول والشعوب العربية التي بقيت على عهدها في دعم الفلسطينيين. لقد رأينا كيف استمرت التظاهرات والدعم الشعبي للقضية الفلسطينية في عدد من الدول العربية، حتى في أصعب الأوقات. هذا الدعم يُظهر أن القضية الفلسطينية ليست قضية حكومات فقط، بل هي قضية شعوب بأكملها.
القسم الخامس: الطريق إلى المستقبل.. هل نستعيد الوعي؟
ختاماً، يمكن القول إن محاولة تشويه التاريخ الفلسطيني، وتبرير الاحتلال والخيانة، ليست سوى جهد يائس لن ينجح في طمس الحقيقة. فالشعب الفلسطيني، على رغم كل المحاولات لقمعه وتفتيت قضيته، لا يزال يحمل راية النضال.
القضية الفلسطينية أكبر من أن تُختزل عبر اتهامات مغرضة أو أكاذيب مفبركة. إنها قضية حق، وصمود، ومقاومة. إنها قضية شعب تم تهجيره مرتين، ليس بفعل خيانته، بل بفعل قوة استعمارية مدعومة بأموال الغرب وسلاحه. وما زال الفلسطينيون يكافحون لاسترداد حقوقهم، ولعل "طوفان الأقصى" يكون فاتحة جديدة للصمود والمقاومة.
ويبقى السؤال مطروحاً على كل عربي: من الذي باع وخان؟ هل هو الفلسطيني الذي استبسل في الدفاع عن أرضه؟ أم من تقاعس عن دعم هذا الشعب وتركه وحيداً في وجه الاحتلال؟