خيارات الرياض بين كُلفة استمرار الحرب على اليمن أو كُلفة وقفها ومعالجة آثارها
التوجّه الجديد للمملكة استفاد من تراجع الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، وانشغال واشنطن وحلفائها بالصراع مع روسيا والصين على خلفية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.
بعد ثمانية أعوام من العدوان على اليمن بقيادة المملكة تستقبل صنعاء وفداً رسمياً سعودياً برئاسة السفير محمد آل جابر الذي كان يُراد له أن يكون نسخة من بول بريمر في اليمن، ولكنه اليوم ينقل للقيادة اليمنية رغبة بلاده في السلام، وهو ما ترحّب به صنعاء شريطة أن تكون رغبة المملكة مصحوبة بالإرادة الجادة والنوايا الحسنة للتوصّل إلى سلام الشجعان العادل والمُشرّف.
هناك نظرة سطحية وفهم قاصر لدى من يتماهى مع الطرح الإعلامي والسياسي الموجّه لرسم صورة تجعل من أي تقدّم في المفاوضات بين صنعاء والرياض نتيجة مباشرة لاتفاق عودة العلاقات السعودية-الإيرانية. ومع ذلك فصنعاء لا تُعير أي اهتمام لمثل هذه الإخراج لتطوّرات الأحداث، ولا سيما أنّ موقفها التفاوضي ظل ثابتاً قبل وبعد الاتفاق بين الرياض وطهران، ولو لم تتيقن الرياض من استقلالية قرار صنعاء لما طرقت أبوابها لخوض مفاوضات مباشرة معها بوساطة عُمانية.
أما المتغيّر الطارئ فهو إبداء المملكة نوعاً من التجاوب مع دعوات السلام الصادرة من صنعاء وطهران في إطار توجّهها نحو تصويب سياساتها، وترتيب أولوياتها الداخلية والخارجية بما يُحقّق مصالحها وطموحاتها الاقتصادية، ويُعالج هواجسها الأمنية. الأمر الذي دفع الرياض إلى إبداء جدية للخروج من مأزقها في اليمن، وإنهاء حالة العداء مع إيران وسوريا.
التوجّه الجديد للمملكة استفاد من تراجع الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، وانشغال واشنطن وحلفائها بالصراع مع روسيا والصين على خلفية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، مع توجّه صيني-روسي يمتلك الإمكانيات لإعادة تشكيل النظام الدولي، حيث وفّرت هذه المعطيات فرصة سانحة ومساحة لتحرّك سعودي عقلاني تجاه صنعاء وطهران، ولا سيما في ظل جهود وساطة دولية تحظى بمصداقية وقبول.
لذا فالمُتتبع لسير الأحداث وتطوّراتها يجد أن اتفاق إعادة العلاقات بين الرياض وطهران برعاية الصين والعراق هو نتاج سنتين من المباحثات بين الطرفين تخلّلها خمس جولات من المحادثات، فيما يُعزى التقدّم الملحوظ في عملية المفاوضات بين صنعاء والرياض إلى جهود الوساطة العُمانية المستمرة بين الطرفين منذ عام 2018.
المفاوضات بين صنعاء والرياض
تفاؤل حذر لدى صنعاء بشأن تقدّم مسار المفاوضات مع الرياض، عبّر عنه رئيس الوفد الوطني المفاوض محمد عبد السلام، الذي وصف نتائج الزيارة الأخيرة للوفد السعودي إلى صنعاء وجولة المفاوضات التي جرت بحضور الوسيط العُماني بأنها إيجابية وأحرزت تقدّماً في بعض القضايا التي يُمكن البناء عليها استكمالاً لحلّ بقية القضايا العالقة، مع تأكيده في الوقت ذاته الجاهزية العسكرية الكاملة لصنعاء تحسّباً لأي طارئ لا ينسجم مع أجواء التهدئة القائمة.
من خلال ما هو متاح من معطيات يُمكن وضع تصوّر يستشرف الخطوط العريضة لأي اتفاق سلام بين صنعاء والرياض، وهو تصوّر يتضمّن بُعدين رئيسيين وثلاث مراحل تنفيذية. فالبعد الأول للاتفاق هو أنه "دولي" تتعاطى فيه صنعاء مع الرياض كقائد لتحالف العدوان الدولي على اليمن، أما البُعد الثاني فهو أنه "محلّي" تتعاطى فيه صنعاء مع الأطراف اليمنيين المُساندين للعدوان للتوصّل إلى حلّ سياسي.
فيما يبدأ الاتفاق بالمرحلة الأولى التي تتخلّلها إجراءات بناء الثقة بين صنعاء والرياض من خلال تمديد الهدنة، ووقف شامل لإطلاق النار، والبدء الفوري بمعالجة القضايا العاجلة في الملف الإنساني كرفع الحصار وفتح الطرقات، وصرف مرتّبات موظفي الدولة، واستكمال التقدّم الحاصل في ملف الأسرى، وصولاً إلى إعلان قيادة تحالف العدوان إنهاء كل عملياتها العسكرية في اليمن، مع مُهلة لخروج القوات الأجنبية.
ويأتي ذلك مُقابل وقف صنعاء استهداف العُمق الحيوي للمملكة بالصواريخ البالستية والطيران المُسيّر، مع وقف عمليات التوغل البري لقواتها داخل حدود المملكة. وتُعد هذه المرحلة الأهم بالنسبة للمملكة كونها تتعلّق بحماية أمنها ومصالحها الوطنية، فيما يطغى الجانب الإنساني على نظرة صنعاء لهذه المرحلة.
باستكمال بنود المرحلة الأولى يتم الانتقال إلى المرحلة الثانية التي تُعد مرحلة انتقالية يتم فيها إجراء حوار سياسي بين صنعاء والأطراف المحليين المساندين للعدوان للتوصل إلى تسوية سياسية تستوجب تهيئة مناخات الحوار، وفي مقدّمتها خروج القوات الأجنبية، والالتزام بفك الارتباط بين رباعية العدوان "الرياض وأبو ظبي وواشنطن ولندن" والأطراف اليمنيين المساندين للعدوان، وعدم التدخّل الخارجي في عملية الحوار.
وعليهِ تُعدّ هذه المرحلة الأصعب كون إنهاء العمليات العسكرية للتحالف لا شكّ سيدفع رباعية العدوان إلى مضاعفة جهودها لضمان مصالحها التي يُلبّيها مشروعها لتقسيم اليمن، وبالتالي استمرارها في التدخّل بشؤون اليمن من خلال دعم حلفائها المحليين سياسياً ومالياً وعسكرياً، مع استخدام الأمم المتحدة كمظلة لتلك التدخّلات.
إنّ الإحاطة الأخيرة للمبعوث الأممي إلى اليمن هانز جرواندبرغ المقدّمة إلى مجلس الأمن الدولي في 17 نيسان/أبريل الجاري طالبت باستعادة الدور الأممي في اليمن من خلال ما أسمته حاجة اليمنيين إلى الاجتماع تحت رعايتها للاتفاق على كيفية إنهاء الحرب، وبالتالي يصعُب التنبّؤ بمآلات هذه المرحلة كونها مفتوحة ولا تخضع لضوابط.
أما المرحلة الثالثة، فهي مرتبطة بالمرحلة الأولى وتُكملها، وتتضمّن جبر الضرر ودفع التعويضات وإعادة الإعمار. فبعد خسارتها العسكرية واستنفاد كل أوراقها لهزيمة صنعاء، وإنفاقها وفق بعض التقديرات لأكثر من 120 مليار دولار لتمويل عملياتها العسكرية التي دمّرت اليمن، تحاول الرياض اليوم الخروج من مأزقها من دون تحمّل للمسؤولية أو أي كُلفة إضافية، مُكتفية بوقف العدوان والحصار، وتقديم نفسها كوسيط بين صنعاء وأدواتها من الأطراف اليمنيين.
وهذا ما يستحيل أن تقبل به صنعاء التي أكدت على لسان قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي بأنه لا مناص للسعودية كقائد لتحالف العدوان من التنصّل عن مسؤولياتها، كون ما تعرّض له اليمن وفق القانون الدولي هو جريمة عدوان دولي وليس حرباً أهلية كما يُروّج، وتتحمّل دول تحالف العدوان بقيادة السعودية المسؤولية الدولية القانونية والجنائية تجاه ما ارتكبته من انتهاكات وجرائم مخالفة للشرائع السماوية، والقوانين والأعراف الدولية، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم أو باتفاق تسوية لا يُقرّ معالجتها.
ختاماً، لا شكّ أنّ الرياض في مفاوضاتها مع صنعاء تتحرّك في إطار سيناريوهات وبدائل مُعدّة من قبل خبراء ومستشارين دوليين، مع تكثيف عملية التواصل والتنسيق بين واشنطن والرياض، حيث شهد النصف الأول من شهر نيسان/أبريل الجاري حراكاً أميركياً ملحوظاً في ملف اليمن من خلال قيام مدير وكالة المخابرات الأميركية وليام بيرنز بزيارة سرية للمملكة، التقى فيها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي استقبل أيضاً وفداً رفيعاً من البيت الأبيض، كما تلقّى ابن سلمان اتصالاً من مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان، إضافة إلى إرسال واشنطن مبعوثها لليمن تيموثي ليندركينج إلى المنطقة.
هذه التحرّكات تُظهر من خلالها واشنطن استمرارها في دعمها السياسي للمملكة في محاولة منها لتعويض فشل دعمها العسكري. لذا لا غرابة فيما تستخدمه الرياض من تكتيكات للمراوغة والتعطيل لبعض القضايا في مفاوضاتها الجارية مع صنعاء رهاناً منها على بعض المتغيّرات الإقليمية والدولية، مع تركيزها على حسم القضايا ذات الأهمية الأمنية والحيوية بالنسبة لها.
إلا أنها في نهاية المطاف ستصطدم بسقف صنعاء التفاوضي المبنيّ على أرضية صُلبة من المكاسب العسكرية والاقتصادية والسياسية، والمطالب المشروعة التي من أجلها سطّر الشعب اليمني العزيز صموداً إسطورياً في وجه العدوان، وقدّم التضحيات الجليلة التي لا يُمكن معها سوى القبول بالسلام المُشرّف الذي يحفظ الحقوق ويسمّي الأشياء بمسميّاتها.
فصنعاء اليوم أضحت تملك زمام المبادرة، وخيارات مفتوحة للردع الاستراتيجي بحراً وجواً وبراً، وقد نقلت عروضها العسكرية الضخمة رسالة واضحة بأنها اليوم أقرب إلى فرض مطالبها المشروعة والانتصار لقضيتها العادلة، مُحذرة الرياض من أن كُلفة استئناف الحرب تفوق بكثير كُلفة إقرارها بخسارتها، وتحمّل تبعاتها ومسؤولية معالجة آثارها تحقيقاً للسلام.