حل النزاعات أداة الصين السلوكية (فلسطين في العمق)
مقاربة بكين للصراع العربي - الإسرائيلي باتت جزءاً من التزامها الأوسع تجاه العالم العربي، وبصورة خاصة تجاه الأنظمة القومية "الاشتراكية العربية".
أدّت الصين دوراً واسع النطاق في تسوية القضايا والنزاعات الدولية الساخنة، بحيث دفعت بنشاط، قبل عقود مضت، عملية السلام في الهند الصينية، ودعت إلى التسوية السلمية للقضية الكمبودية وتحققت، وبدأت المحادثات السداسية لإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية.
وتعمل الصين بنشاط على تعزيز عمليات الحوار السياسي بشأن القضية النووية الإيرانية وأوكرانيا وحتى الشرق الأوسط وجنوبي السودان، وتشارك بقوة في التعاون الدولي في مكافحة الإرهاب، ومكافحة تهريب المخدرات، والأمن السيبراني، وتغير المناخ.
وساهمت الصين عبر أكبر عدد من أفراد حفظ السلام، بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، بحيث يقوم أكثر من 3000 جندي صيني من قوات حفظ السلام بواجباتهم في جميع أنحاء العالم كل يوم. وقامت الصين أيضاً بنشر ما مجموعه 59 سفينة في خليج عدن والمياه قبالة الساحل الصومالي في 20 مهمة لضمان سلامة ما يقرب من 6000 سفينة صينية وأجنبية.
بالإضافة إلى ما سبق، على مر السنين، عملت الصين جاهدة على تعميق التفاهم والثقة المتبادلَين مع جيرانها، ووقعت معاهدات حسن الجوار والتعاون الودي مع ثماني دول على التوالي، وهي مستعدة لفعل الشيء نفسه مع جيران آخرين راغبين في تدوين الالتزام المشترك بشأن السلام والتعاون الودي، وقامت بتسوية قضايا حدودها البرية بصورة كاملة مع 12 من جيرانها الـ14.
بهذا وغيره، فإن هناك عدداً من العناصر التي تؤكد إمكان تشكيل مشهد دولي جديد ومهم لتسوية المنازعات العالمية، يتمركز في آسيا، بحيث بالإضافة إلى الدور الصيني الذي يزداد انتشاراً على الأرض، فإن الحجم الكبير للنزاعات، التي من المتوقع أن تنشأ عن النشاط التجاري المرتبط بمبادرة الحزام والطريق، وقدرة مؤسسات ذات صلة بالصين (مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية وبنك الاستثمار الصيني الدولي) والمؤسسات الراسخة غير المسيطر عليها بصورة كاملة من أرباب النظام الدولي الحالي (مثل المحكمة الجنائية الدولية) قادرة على توفير بيئة جديدة للثقل العالمي في النزاعات، ويمكن القول اليوم إنه أصبح من الضروري أن تغير الصين هذا المشهد.
حل النزاعات.. طريق الصين نحو السيطرة
عملت الصين على المساهمة في حل الصراعات على المستويين الإقليمي والدولي، كي تحافظ على سلامة مصالحها التجارية من جهة، ومن جهة أخرى من أجل تأمين حدودها من أي خطر محدق للحفاظ على الاستقرار الداخلي الصين.
وفيما يلي أهم القضايا التي ساهمت الصين في حلها:
أولاً: النزاع في بحر الصين الجنوبي: تشمل المفاوضات بشأن بحر الصين الجنوبي مجموعة من النزاعات الإقليمية بين الدول المجاورة للمياه الإقليمية في المنطقة، وتدور هذه النزاعات حول السيادة على الجزر والمرافق البحرية وحقوق استخدام الموارد الطبيعية في هذه المياه، بحيث توسطت الصين في المفاوضات بين الأطراف المتنازعة للتوصل إلى حلول سلمية تُعزز الثقة المتبادلة والاستقرار في المنطقة.
لبحر جنوبي الصين أهمية اقتصادية وبيئية وجيوستراتيجية، فهو معبر لنحو ثلث الشحن البحري في العالم، بقيمة تبلغ نحو 3.37 تريليونات دولار أميركي سنوياً، وتعتمد عليه الصين في وارداتها من الطاقة بنسبة تصل إلى 80%، و39.5% من إجمالي التجارة الصينية.
ثانياً: الحرب في سوريا: شاركت الصين في الجهود الدولية لحل الأزمة في سوريا من خلال دعم المحادثات السياسية في جنيف وأستانا، وقدمت الصين دعماً دبلوماسياً وإنسانياً من أجل تخفيف معاناة الشعب السوري وتسهيل الحوار، بحيث تعمل الصين على تشجيع حل سياسي يحقق الاستقرار والسلام في سوريا، من خلال الحوار والتعاون مع الجهات الدولية الأخرى.
وبشأن العلاقة التاريخية بين سوريا والصين، أشار باحثو معهد الشرق الأوسط السياسي والاقتصادي إلى أهمية سوريا بالنسبة إلى مشاريع الصين، وخصوصاً لجهة الارتباط بمبادرة الحزام والطريق الصينية، نظراً إلى مميزاتها الجغرافية ومواردها الوفيرة.
النزاعات في أفريقيا: تؤدي الصين دوراً مهماً في تسهيل المفاوضات والحوار في النزاعات الأفريقية، مثل النزاع بين السودان وجنوبي السودان والصومال، وتوفر الصين الدعم، دبلوماسياً وتنموياً، لتعزيز السلام والاستقرار في القارة الأفريقية.
وتأتي أهمية أفريقيا بالنسبة إلى الصين من كونها مصدراً للمواد الخام والطاقة، وهي في أمسّ الحاجة إليها لدعم نموها الاقتصادي.
الصين نحو فلسطين
بعد الانتصار الشيوعي في تشرين الأول/أكتوبر 1949 وتأسيس جمهورية الصين الشعبية، جرى صدّ محاولات "إسرائيل" إقامة علاقات دبلوماسية ببكين. وباتت مقاربة بكين للصراع العربي - الإسرائيلي جزءاً من التزامها الأوسع تجاه العالم العربي، وبصورة خاصة تجاه الأنظمة القومية "الاشتراكية العربية".
وفي مطلع القرن الجديد، اتبعت الصين سياسة متحفظة، بحيث كانت مقاربة الصين، القائمة على تجنب الانخراط المباشر، مرئية كذلك عندما أعلنت الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا تشكيل "اللجنة الرباعية" في عام 2002 لتنسيق النشاطات الدولية بشأن حل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فالصين لم تسعَ للانضمام إلى الرباعية، لكنها، في المقابل، أعلنت مبعوثها الخاص إلى الشرق الأوسط، لكن هذا الإجراء كان رمزياً إلى حد بعيد، إذ بقي المبعوثون في بكين واكتفوا بزيارات موسمية للمنطقة للقاء ممثلين رسميين عن الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.
ومنذ مطلع العُشرية الثانية للقرن الجديد، أصبحت الصين قوة عظمى. وأصبح شي جين بينغ رئيساً في عام 2012، وتبنّى سياسة خارجية أكثر نشاطاً. بيد أن الموقف بالنسبة إلى الفلسطينيين، بقي متواضعاً.
ويشير غي بيرتون، في بحثه لدى مؤسسة الدراسات الفلسطينية، إلى أنه في عام 2017، قام الرئيس محمود عباس بزيارة بكين، وقامت القيادة الصينية بمراجعة خطتها ذات النقاط الأربع، فأدرجت فيها إشارة إلى "مبادرة الحزام والطريق"، وبهذا اقترح شي جين بينغ استضافة ندوة دراسية تجمع الصهاينة والفلسطينيين معاً في سعي لإيجاد طريقة للتقدم في عملية السلام. وفعلاً، انعقد "منتدى السلام" بين الوفدين الصهيوني والفلسطيني طوال يومين في كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام، لكن الصينيين لم يتمكّنوا من دفع الطرفين إلى تبنّي أكثر من بيان غير ملزم أعاد صوغ كثير من المكوّنات الرئيسة لعملية أوسلو.
أما اليوم، فإن السلوك الصيني يبدو أنه أخذ منحى أكثر انفتاحاً وعمقاً تجاه القضية الفلسطينية، بحيث شرعت الصين إلى استضافة الحوار الفلسطيني الفلسطيني، والذي يحمل دلالة مهمة، وخصوصاً من الناحية الزمنية لهذه الاستضافة، بحيث لم يعد اليوم هناك طرف محايد من الصراع في ظل معركة الإبادة التي يمارسها الجيش الصهيوني على غزة، الأمر الذي يعني أن الصين تتبنى الجانب الفلسطيني وروايته.
ولعل هذا التوجه، وإن بدا صغيراً، فربما له أبعاد كبيرة، فهو يعني أولاً أن الصين أصبحت تتصرف بسلوك الدولة العظمى، وبالتالي تنغمس أكثر في قضايا أكثر توتراً من القضايا التي كانت تتدخل فيها، وثانياً أن الدخول كراعٍ في الحوار الفلسطيني يعني التناقض مع أميركا الراعية للكيان الصهيوني.
ختاماً، إن التفكير في أن الصين أصبحت منحازة تماماً إلى القضية الفلسطينية غير دقيق، لكن، مع ذلك فإن الفرصة التاريخية في أن تقود دولة كالصين مشروع المصالحة الفلسطينية، يمكن أن يبنى عليه الكثير، سواء على الصعيد الداخلي، أو حتى على المستوى العالمي في الساحات الدولية.