جبهة الشمال تُشرذم "أمة الشركات الناشئة" في الجليل

بالرغم من المحاولات الحثيثة والمبادرات لإعادة إحياء مشهد الشركات الناشئة سواء في "كريات شمونة" أو كيبوتس "مناحايم"، فإن ذلك يواجه بحالة عدم استقرار في ظل التصعيد والاستهداف المتكرر بعشرات الصواريخ من قبل المقاومة.

  • "طوفان الأقصى" يفلس الجليل.

لطالما حاول الكيان الإسرائيلي الترويج لنفسه على أنه نموذج تكنولوجي رائد، وبيئة مثالية داعمة لازدهار قطاع الشركات الناشئة، الذي يجتذب بدوره الشركات التكنولوجية العالمية للاستثمار.

وبعد أن اقتصر وصف "أمّة الشركات الناشئة" (Start-up Nationلعقود طويلة على النشاط الريادي الذي كان يتمركز في المنطقة الوسطى من "إسرائيل"، بشّرت صحيفة " ذا جيروزاليم بوست" الإسرائيلية عام 2022، أنه من المتوقع أن يكون الجليل (المنطقة الشمالية) المركز التكنولوجي الكبير التالي في الكيان إذا تم استيفاء الشروط المناسبة، بعد "وادي سيلكون الشرق الأوسط" (تل أبيب).

تمثّل صناعة التكنولوجيا الإسرائيلية 18% من الناتج المحلي، وما يناهز 50 % من الصادرات الإسرائيلية، وتساهم بأكثر من 30 % من الضرائب الحكومية، كما تشغّل الشركات التكنولوجية الناشئة النسبة الكبرى من القوى العاملة المتخصصة بالتكنولوجيا، وفي عام 2021 و2022 كانت مساهمة الاستثمارات الأجنبية في الشركات الناشئة الإسرائيلية نحو 80% من إجمالي الاستثمارات.
 

الجليل "كمركز التكنولوجيا المستقبلي"

شهدت السنوات الأخيرة رفداً للاستيطان في الجليل من بابه التكنولوجي والاقتصادي بعد انتقال العديد من العاملين في مجال التكنولوجيا ورؤساء الشركات الناشئة لإنشاء وتطوير أو نقل شركاتهم إلى المنطقة الشمالية، حيث استأجرت العديد من الشركات بمختلف أحجامها، بما في ذلك الشركات الكبرى مثل "سيموتيف" و"ناياكس" للتكنولوجيا، وشركة "إلبيت سيستمز" للإلكترونيات الدفاعية، مكاتب لأعمالها في الشمال.

إلى جانب تشكيل العاملين البيئي والطبيعي عنصر جذب لروّاد الأعمال، عززت الحكومة الإسرائيلية والسلطات المحلية ورجال الأعمال، جهود تهيئة البنى التحتية وتوفير الموارد البشرية الخبيرة، حيث نَشطت المنشآت والمدن الناشئة التي توفّر الاحتياجات التقنية منها تدابير أمن المعلومات المتقدمة، أنظمة الواقع الافتراضي، والواقع المعزز (Augmented Reality) بالإضافة إلى الانترنت عالي السرعة. 

درّة التاج.. "كريات شمونة" المهجورة 

تعدّ مستوطنة "كريات شمونة" (قرية الخالصة المهجّرة) المحاذية للبنان مركزاً حيويّاً في المنطقة، ونموذجاً مثالياً في مجال التكنولوجيا الفائقة (High Tech)، وتكنولوجيا البيئة والغذاء والصحة، السياحة، التجارة عن بُعد، والذكاء الاصطناعي.

في هذا الإطار، شهدت "كريات شمونة" في العقد الأخير، طفرة اقتصادية وتكنولوجية كبرى، بوجود البنية التحتية الملائمة وتوفّر حاضنات الأعمال والمساحات المشتركة والدعم المحلي والحكومي للمستوطنين الشبّان وأصحاب الشركات.

كما تحظى مدنها الناشئة كمدينة "مرجاليت" ( Margalit Startup City Galil) بتعاون مع عمالقة التكنولوجيا بما في ذلك "فيسبوك" و"أمازون" و"سيسكو".

وكان من المتوقع أن يخلق المركز الذي استثمر فيه صاحبه "إيريل مارغاليت" عشرات مليارات الشواكل، "آلاف فرص العمل واجتذابه عائلات المستوطنين والشبان للسكن في الجليل".

"طوفان الأقصى" يفلس الجليل 

إن مشهد تقدّم قطاع الشركات الناشئة وصناعة التكنولوجيا الفائقة في الجليل في العقد الأخير، سرعان ما تلقى ضربة استراتيجية عقب اندلاع معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر، وعلى وقع ضربات حزب الله الذي دخل المعركة في يومها الثاني، ما أدى إلى إخلاء نحو 43 مستوطنة من المستوطنات الشمالية، وفاقمه استدعاء نحو 360 ألف جندي احتياطي، تعمل نسبة كبيرة منهم في هذا المجال عموماً.

إثر ذلك، علت أصوات الاعتراض من أصحاب الشركات والمدن الناشئة، ففي السابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط الماضي، وقف عضو الكنيست السابق ورجل الأعمال إيريل مارغاليت مخاطباً تَجَمُّعَ أكثر من 70 صاحب مؤسسة وشركة ناشئة ومسثمراً في "كيبوتس محنايم" مطالباً بالسماح لمستوطني شمال فلسطين المحتلة بالعودة مؤكّداً:" كل شهر يمر، نفقد 10% من السكان في الجليل. وفي غضون ثلاثة أشهر، سيفلس الجليل." 

كما هَدَفَ التجمّع إلى الضغط على حكومة الاحتلال لدعم مبادرات عودة المستثمرين والشركات الناشئة إلى الشمال، بعد مغادرة "نحو 85% من الشركات التي بدأت أو انتقلت إلى منطقة الجليل في السنوات الخمس الماضية "، وفق ما أشار رئيس المجلس الإقليمي الإسرائيلي في منطقة الجليل الأعلى غيورا سالز.

إلى جانب الشركات الناشئة، تعدّ منطقة الشمال مركزاً مهّماً أيضاً لعدد من مصانع ومختبرات ومقار شركات الأسلحة كشركة "رافاييل" للصناعات العسكرية الإسرائيلية التي استهدف حزب الله مجمّعها في مستوطنة "شلومي" المحاذية للبنان ( 21 تشرين الثاني / نوفمبر2023)، وشركة "البيت سيستمز" التي أعلن مديرها انخفاض أرباحها عقب إغلاق مصانعها في مستوطنة "كريات شمونة" و"سديروت"، وتراجع أرباحها بنسبة 22 % بعد الحرب على غزة، بالإضافة إلى تراجع إنتاجها بسبب تجنيد 2000 من موظفيها في "جيش" الاحتلال الإسرائيلي ومقتل 5 من عمالها.Top of Form

الأكاديميا أيضاً 

لم تقتصر آثار الحرب الدائرة شمالاً على الشركات الناشئة فقط، بل امتدّت آثارها إلى المجالين الأكاديمي والبحثي، ومن أبرزها أكاديمية "تل حاي"، التي عملت على جذب هيئة تدريس وباحثين مهمّين، ويتوافد 70% من طلابها من مناطق مختلفة في كيان الاحتلال.

ويعدّ المعهد بذراعه البحثية "ميغال" ( معهد البحوث في الجليل)، "منصة لثورة تكنولوجيا الأغذية في الشمال، كما يقدّم منحاً لتشجيع الطلاب والخريجين وأعضاء هيئة التدريس وأفراد المجتمع على تقديم مقترحات لمبادرات تجارية أصلية ومبتكرة".

لكنّ ما يحصل حالياً في الشمال يبدو كأنه "رجوع إلى الوراء بنحو خمس سنين" يقول اريك دايان، رئيس اللجنة الاستراتيجية في كلية "تل حاي" ورئيس جمعية "وادي إسرائيل" لتقنيات الزراعة والغذاء، لافتاً إلى أن " مليارات الشواكل التي تم استثمارها في الحرم الجامعي والبرامج الخاصة بالكلية قد لحقت بها أضرار كبيرة".

 وفي هذا الإطار، خسرت الجامعة التي تقع في مستوطنة "تل حاي" الملاصقة لـ"كريات شمونة" 4500 تلميذ بعد إخلاء الأخيرة من 24000 مستوطن. ويضيف دايان: "اليوم، لدينا ما يقرب من 6000 طالب"، "لكن 60% من طلابنا قاموا بالإخلاء بعد السابع من أكتوبر و60% من الأشخاص الذين يعملون في تل حاي.. متفرقون من إيلات إلى يسود همعالا، كما أن نحو500 معلم وطالب لا يزالون يخدمون في الاحتياطي العسكري للجيش الإسرائيلي." (حتى نهاية فبراير/ شباط) 

 الأعمال معلقة حتى إشعار آخر 

بالرغم من المحاولات الحثيثة والمبادرات لإعادة إحياء مشهد الشركات الناشئة سواء في "كريات شمونة" أو كيبوتس "مناحايم"، فإن ذلك يواجه بحالة عدم استقرار في ظل التصعيد والاستهداف المتكرر بعشرات الصواريخ من قبل المقاومة؛ إذ أسفر الأسبوع الأخير من شهر آذار عن إغلاق مستوطنة "كريات شمونة" ودعوة سلطتها المحلية من بقي من المستوطنين إلى الرحيل، كلّ ذلك وسط اتهامات بأن الحكومة الإسرائيلية قد تركت منطقة الشمال لحزب الله الذي يكرر "أن لا هدوء في الشمال قبل عودة الهدوء إلى غزة".