جبهات الإسناد السياسي ومفاوضات وقف الحرب
مع اشتعال جبهات الإسناد وتصاعد قوة تأثيرها، باتت حظوظ نجاح الصفقة أكبر بسبب الرغبة الكبيرة لدى قوى التأثير في العالم وقف هذه الحرب ومنع تمددها.
منذ تنفيذ المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها كتائب القسام، عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023م، كانت الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة مع لبنان محل اهتمام صانع القرار في "إسرائيل"، وسرعان ما انتقلت أنظار العالم كله إلى ما يمكن أن يفعله محور المقاومة، ولا سيما الجبهة الأقوى لبنان، بالتحديد إلى ما يمكن أن يفعله حزب الله. ولم تمضِ سوى ساعات على بدء العملية حتى أطلقت الولايات المتحدة تهديداتها بالتدخل لحماية "إسرائيل" في حال هاجم حزب الله أو حلفاء إيران "إسرائيل".
وقد أرسلت واشنطن إلى المنطقة حاملة الطائرات الهجومية "يو أس أس آيزنهاور"، إضافة إلى إرسال أكبر حاملة طائرات في العالم، "يو أس أس جيرالد آر فورد".
هذه التطورات والتهديدات كانت بمنزلة تدخل مباشر لواشنطن لثني حزب الله عن الانخراط في هذه المعركة بأي شكل، وإفشال فكرة وحدة الساحات، لكنّ حزب الله تجاهل كل هذه الضغوط والتهديدات، وقام في الثامن من أكتوبر بهجوم عسكري على مناطق مزارع شبعا المحتلة بالصواريخ إيذاناً منه بالانخراط في هذه المواجهة كجبهة إسناد قابلة لأن تصبح جبهة مواجهة شاملة حال قررت "إسرائيل" شنّ حرب واسعة على لبنان، أو كسر قواعد الاشتباك خلال المواجهة. كذلك، نفذت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، عملية استشهادية عند الحدود اللبنانية-الفلسطينية أدت إلى مقتل وإصابة جنود من "الجيش" الإسرائيلي، أي أن الجبهة اللبنانية انخرطت مع مكونات مقاومة فلسطينية في هذه المعركة.
سرعان ما تحولت هذه الجبهة وجبهتا اليمن والعراق من جبهات إسناد ميداني الى جبهة إسناد سياسي أصبح لها وقع كبير في سير عجلة المفاوضات.
ومع بدء واشنطن فتح مسار مفاوضات آخر غير مباشر مع حزب الله لفصل الجبهات، ومع أول زيارة للمبعوث الأميركي الخاص إلى لبنان آموس هوكستين لبذل جهود مع الدولة اللبنانية للوصول إلى اتفاق يفضي إلى وقف المواجهة بين حزب الله و "إسرائيل"، ويضع حداً لتوسع المواجهة بحيث لا تصل إلى حرب شاملة مع لبنان بمعزل عما يجري في قطاع غزة، وضع الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله خطاً أحمر أمام كل هذه الجهود، وأن اتفاق مع لبنان لن يتم قبل وقف الحرب على غزة.
بهذه العبارة اصطدمت كل محاولات وقف إطلاق النار بين الطرفين، وأصبحت جبهة الجنوب جبهة الإسناد الميدانية للمقاومة في غزة وهدفها تشتيت الجهد العسكري الإسرائيلي في أكثر من جبهة وإشغال ألوية من قوات الاحتياط وسلاح الجو والقبة الحديدية وفرقة الشمال حيث خصصت "إسرائيل" نصف قدراتها العسكرية باتجاه لبنان.
وأرسل بثلث "الجيش" الإسرائيلي إلى الحدود مع لبنان أي أكثر من 80 ألف جندي وضابط، كذلك دفعت العمليات على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة "الجيش" الإسرائيلي إلى تخصيص نصف القدرات البحرية باتجاه لبنان وجرها في البحر المتوسط قرب لبنان وحيفا.
وكرّست القوات الإسرائيلية ربع القوات الجوية الإسرائيلية باتجاه لبنان، كما ركزت في هذا الاتجاه نحو نصف الدفاع الصاروخي، وثلث القوات اللوجيستية وبذلك حقق الإسناد العسكري من جبهة لبنان هدفاً من أهدافه، وهو إشغال أكبر قدر ممكن من قوات "الجيش" عن الحرب بغزة، وتحييد هذه القوات عن المشاركة في الضغط العسكري بالقطاع وزيادة الضغط على العنصر البشري لـ"الجيش" وإجبارهم على تجنيد عشرات الآلاف من جنود الاحتياط الأقل خبرة وكفاءة، وقد نجحت هذه الاستراتيجية في تحقيق هدفها.
إضافة إلى هذا الإسناد الميداني، أصبحت جبهة لبنان وجبهات الإسناد الأخرى في اليمن والعراق واحدة من أهم أوراق القوة والإسناد السياسي للمفاوض الفلسطيني في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة.
فمع سعي واشنطن، وكذا فرنسا التي قدمت ورقة تقترح فصل الجبهات وتحقق اتفاقاً في لبنان بمعزل عن غزة لمنع توسع المواجهة مع حزب الله وتمدد الصراع ليشعل الشرق الأوسط وتشاطر واشنطن وفرنسا دول الاتحاد الأوروبي التي أصبح لديها القناعة المطلقة بأن إنجاز صفقة تفضي إلى وقف الحرب هي المدخل الأساسي والوحيد الذي سيمنع انزلاق الشرق الأوسط إلى حرب لا تريدها دول العالم، وتخشى من تبعاتها وفقدان السيطرة عليها. وعليه، أصبحت واحدة من الأولويات لوقف التوتر في المنطقة إبرام صفقة شاملة توقف الحرب في غزة ولبنان في آن واحد، وتعيد الاستقرار إلى الملاحة الدولية في البحر الأحمر، الذي يعدّ مضيق باب المندب الذي يطل عليه اليمن ممراً لها، إذ شكلت هجمات أنصار الله تهديداً مباشراً للاقتصاد الذي يرتبط بـ "إسرائيل"، وسعت
واشنطن وعدد من دول الغرب لتشكيل قوة أمنية لإعادة سير الملاحة في البحر الأحمر إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر لكنها فشلت، وهنا أيضاً أعلن زعيم جماعة أنصار الله السيد عبد الملك الحوثي موقفاً ثابتاً حول إمكانية توقف الهجمات على السفن ذات الصلة بـ"إسرائيل" في البحر الأحمر أو على "إسرائيل" مباشرة، وهو وقف الحرب ورفع الحصار عن غزة، وبذلك بات من المؤكد أن هذه الملاحة لن تعود إلى سابق عهدها وجبهة الشمال لن تهدأ قبل تحقيق اتفاق يوقف الحرب في غزة. ومن هنا باتت واشنطن معنية جداً بتهدئة هذه الجبهات من خلال وقف الحرب في غزة، وأصبحت جبهات الإسناد الميدانية جبهات إسناد سياسي مهمة لوقف الحرب في غزة.
ومع اشتعال جبهات الإسناد وتصاعد قوة تأثيرها، باتت حظوظ نجاح الصفقة أكبر بسبب الرغبة الكبيرة لدى قوى التأثير في العالم وقف هذه الحرب ومنع تمددها، وكذا خشية "إسرائيل" من أن تجد نفسها عاجزة عن مواجهة تتدافع لها، وتوسع جبهات الإسناد يفقدها قوة التأثير على طاولة المفاوضات.