تجلّيات الواقعية والمبدئية في النهج السياسي السوري
بعيداً عن الغرق بالتفاصيل التي جعلت العرب يعودون إلى سوريا، لعلّ ما يسمّى بالانفراج الدبلوماسي هو ما يحدث الآن سواء على الصعيدين الإقليمي من جهة أو الدولي من جهة أخرى.
لم تكن العداوة والبغضاء التي أبداها التكفيريون وداعموهم من غير العرب تجاه سوريا في بداية الحرب عليها أشدّ مضاضة من جفاء بعض الأشقاء العرب، وتخلّيهم عنها ولحاقهم بركب الدول الكبرى السائرة على طريق تدمير سوريا وتهديد وحدتها وسلامة أراضيها وتشريد شعبها.
هذا الجفاء الذي لاقى على أرض الواقع ترجمات عديدة تراوحت بين الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، الأمر الذي كانت له آثاره المعنوية الأشد قسوة من المادية التي زادت من تدهور الأوضاع وتدحرجها باتجاه الأسوأ في سوريا.
واليوم بعد ميلان كفّة الميزان لصالح سوريا وتكشّف الكثير من خيوط المؤامرات التي كانت تحاك ضدها، وإثبات سوريا قيادة وشعباً لمصداقيتها، ودعم ناجم عن ثقة بالدور والمكانة من الصديق الحليف الدولي قبل الإقليمي، وتحت تأثير عوامل أخرى ارتبطت بمجمل المتغيّرات الدولية والإقليمية التي تعجّ بها الساحة الدولية، فقد عادت بعض الدول العربية إلى الحضن السوري قناعة بأحقيتها ومصداقية نهجها تارة ورضوخاً إلى الواقع تارة أخرى، حيث السوري ثابت ينجز ويتقدّم رغم أزماته وحرمانه من الكثير من مقوّمات الحياة والاستقرار والاستمرار.
وبعيداً عن الغرق بالتفاصيل التي جعلت العرب يعودون إلى سوريا، لعلّ ما يسمّى بالانفراج الدبلوماسي هو ما يحدث الآن سواء على الصعيدين الإقليمي من جهة أو الدولي من جهة أخرى. فبعد تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية عام 2011 وقيام العديد من الدول العربية بسحب مبعوثيها من دمشق، ورغم محاولة الدولة الجزائرية الشقيقة والحليفة الوثيقة إقناع الدول العربية بعودة سوريا إلى الجامعة، وإنهاء تعليق عضويتها عقب استضافتها أول قمة بعد جائحه كوفيد 19، إلى أنّها لم تفلح بذلك ليبقى هذا الجهد العربي والأخوي محسوباً لها.
ثم جاءت تصريحات وزير الخارجية السعودي الحالي في 19 شباط/فبراير في منتدى ميونخ حول بدء تشكّل إجماع عربي على أنّه لا جدوى من عزل سوريا، وأن الحوار مع دمشق مطلوب. علماً أنه كان قد سبق له وصرّح بأنّ هناك تمهيداً لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.
ولقد انتعشت الآمال من منظور العرب عموماً والسوريين خصوصاً بعد توقيع الاتفاق الأخير بين إيران والسعودية حول تسوية خلافاتهما وتطبيع علاقاتهما، الأمر الذي لقي ترحيباً من الجانب السوري، وجاء صراحة على لسان السيد الرئيس بشار الأسد أثناء زيارته للرئيس الروسي في موسكو نظراً لما يمكن أن يترتّب عليها من مفرزات إيجابية، ستعمّ نتائجها دول المنطقة بأسرها، بما في ذلك إحباط الصورة النمطية التي حاول الغرب خلقها وزرعها في الذهنية العربية حول أن "إيران عدو وليست صديقاً".
وقد حاولت إيران مراراً وتكراراً منذ عام 2003، أثناء حضور الرئيس أحمدي نجاد إلى مؤتمر الدوحة تبديد الخلافات والمخاوف وصولاً إلى زيارة الرئيس حسن روحاني عام 2017، وسعيه لحل سوء التفاهم مع دول الخليج، وصولاً إلى محاولات الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي لرأب الصدع وحل الخلافات مع المحيط المجاور له. ولعل اتفاق إيران والسعودية في حال تمّ فعلاً، ستطال نتائجه الإيجابية الصعيد الإقليمي قاطبة بما في ذلك سوريا، لما له من دور فعّال في إنهاء العزلة الاقتصادية والسياسية المفروضة عليها منذ زمن.
ومن منطلق الثقل الإقليمي للمحور الخليجي على المستوى العربي عموماً والإسلامي خصوصاً فلا يمكن إغفال الثقل الإقليمي للمحور الخليجي ودوره في حسم الحرب الحالية ضد سوريا، ومعالجة آثارها السلبية والكارثية. وهنا نقف باحترام أمام الدور الإماراتي إنسانياً وسياسياً، فالإمارات إحدى أهم دول مجلس التعاون الخليجي من حيث الوزن السياسي والاقتصادي كما تمثّل الوجه الحضاري العالمي ولا تزال تؤدّي دوراً إيجابياً بخصوص الحالة في سوريا.
ولقد شهد العالم على مرأى العين زيارة الرئيس الأسد الأخيرة إلى الإمارات العربية المتحدة التي سبقتها سلسلة زيارات لوزير الخارجية الإماراتي إلى سوريا في محاولات كثيرة من جانبهم لرأب الصدع، وتحقيق المزيد من التنسيق باتجاه إيجاد مخارج للخلافات العالقة التي تعتري الصف العربي.
ولا يمكن تجاهل حالة التضامن العربي التي تواكبت مع الخراب والدمار الذي تسبّب به الزلزال المدمّر الأخير في سوريا، حيث تبعه إسعاف بعض الدول العربية على رأسها العراق والجزائر والإمارات لسيلٍ هائلٍ من المساعدات الإنسانية مطالبين المجتمع الدولي بالوقوف إلى جانب سوريا في محنتها. فكان لذلك انعكاساته السياسية من حيث تحقيق المزيد من التقارب والرغبة بإيجاد الحلول والتسويات بقصد عودة سوريا كما كانت قبل الحرب عليها.
والجديد في الأمر زيارة وزير الخارجية السوري إلى مصر العربية بعد انقطاع دام 12 عاماً ضمن سلسلة الانفراجات الدبلوماسية التي تشهدها الدولة السورية، والتي رأى بعض المراقبين أنّها تمهيد للعودة الميمونة إلى سوريا على الساحة العربية، علماً أن مصر أكّدت في أكثر من موقف تمنياتها وحرصها على عودة سوريا إلى المحيط العربي.
هذا وتأتي أهمية هذه الزيارة من أهمية مصر ذاتها بالنسبة لسوريا، وكذلك أهمية سوريا بالنسبة لمصر، فكلاهما عمق استراتيجي للآخر وبينهما قواسم مشتركة، ظهرت بوضوح مع بداية الحرب على سوريا. أهمها حربهما ضد حركات الإسلام السياسي وحماية مرجعية الدولتين من الأيديولوجيات الجامدة التي تعاني من ديماغوجية فكرية، إضافة إلى احتضان قطاع واسع من الشعب المصري للمشروع القومي العربي الذي يشكّل جوهر النضال السوري ضد الممارسات والمخططات الصهيونية والأميركية على أصالة وعروبة الجيشين العربيين المصري والسوري ومكانتهما عربياً وإسلامياً على الساحتين الإقليمية والدولية أيضاً.
وعلى الصعيد الدولي كانت بداية مؤشرات الانفراجات مع الزيارة التي أطلقها الرئيس الصيني عقب محادثات ثنائية مع الرئيس الروسي أكدا في خضمّها بناء عالم متعدّد الأقطاب ومعارضتهما بشدة أي دول أو تكتلات تضرّ بمصالح الدول الأخرى. ولعل دعمهما لسوريا في مناهضتها لما يمارس ضدها عالمياً من انتهاكات لسيادتها، يأتي ضمن المضمار المعلن للرئيسين الصيني والروسي على وجود علاقات وثيقة بينهما وبين سوريا التي أثبتت مصداقية مواجهتها للمخططات الصهيونية والأميركية.
وبالمجمل إن الواقعية والمبدئية السياسية في النهج السياسي السوري تتجلّى واضحة رغم الحاجة الملحّة لأي انفراج دبلوماسي من شأنه إخراج الدولة السورية من الحرب والحصار المفروضين عليها منذ 12 سنة، إلا أنّها لم تتخلَّ عن مبادئها وخطوطها الحمر، والتي قامت الحرب بسببها، كما لم تقع فريسة التسرّع للقبول بالعروض الوهمية التي تبرز بوصفها موضع شك وريبة، كما هي الحال بالنسبة للتركي المقدم على انتخابات رئاسية. وقد يكون التقارب من سوريا بمثابة ورقة سياسية تخدم أغراض الانتخابات، حيث اعتمدت سوريا النظر إلى حقيقة الأمور وجوهرها، وغض الطرف تماماً عن السطحيات والظواهر.
وقد حقّقت بذلك الركن الجوهري الذي تقوم عليه الواقعية، كما اعتمدت مصالحها ومبادئها معياراً للتقييم والتعامل، فزاوجت بذلك بين الواقعية والمبدئية في نهجها السياسي، واللذين تجلّيا بوضوح برفضها التخلّي عن الإرث العملي والنظري الذي حاولت سوريا قيادة وجيشاً وشعباً أن تحميه خلال سنوات الحرب عبر ما قدّمته من تضحيات مادية وبشرية، ولأنّ ذلك يعني ببساطة نسف هذا الإرث المذكور.
ولا أدّل على ذلك من المفاوضات الجارية في موسكو مع التركي، والتي اشترطت فيها سوريا قبل كل شيء إنهاء الوجود العسكري والانسحاب من الأراضي السورية، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية المبادئ والمطالب التي تقدّمت بها من قبل، وهذا يثبت لدول العالم أجمع أن حالة سوريا ووضعها الحرج اقتصادياً وسياسياً لم يضطرها للاستغناء عن مبادئها التي قدّمت الكثير لأجلها.
وها هي أتت أكلها حين بنى حلفاء سوريا من الدول الكبرى على أساس النجاحات السورية بوصفها حليفاً لهم ليتكلّم الجميع اليوم عن تشكيل عالم متعدّد الأقطاب قد لا نبالغ إذا قلنا إن الحرب السورية كانت نقطة الانطلاق فيه.