بين هجوم شيراز وصور الإرهاب في العراق
يبدو أنّ هجوم شيراز الإرهابي الأخير، وكذلك الذي سبقه قبل عشرة شهور، لا يخرج عن سياق الأجندات والمشاريع التي طبّقت في العراق وأماكن أخرى.
لا يمكن قراءة وتحليل حدث حسّاس خطير، كالهجوم الإرهابيّ الذي وقع مؤخّراً في مرقد السيد أحمد بن الإمام موسى الكاظم (ع)، المعروف بـ"شاه جراغ" في مدينة شيراز جنوب غربي إيران، بمعزل عن مجمل نشاط وحركة وأهداف ومخططات الجماعات والتنظيمات الإرهابية التكفيرية طيلة العقدين المنصرمين، وربما أبعد من ذلك، خصوصاً وأنّ تنظيم "داعش" الإرهابي لم يتأخّر في إعلان مسؤوليته عن ذلك الهجوم، مثلما أعلن قبل نحو عشرة شهور مسؤوليته عن هجوم أكثر دموية استهدف المرقد المذكور، وأوقع عشرات القتلى والجرحى في صفوف المدنيّين والقوات الأمنية.
للوهلة الأولى، أعاد مشهد هجوم شيراز الإرهابي إلى الأذهان، صور الإرهاب الدمويّ الذي أغرق شوارع العراق ومدنه المختلفة بدماء المدنيين الأبرياء وأشلائهم على مدى أعوام طويلة، وكانت للمراقد والمقامات والرموز الدينية، والزائرين لها والمشاركين في إحياء المناسبات والزيارات الدينية، مثل عاشوراء الإمام الحسين (ع)، وزيارة الأربعين، وذكرى استشهاد الإمام موسى الكاظم، حصة الأسد من الأعمال الإرهابية في العراق أساساً، وكذلك في سوريا ودول أخرى.
وقد يكون تفجير مرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام بمدينة سامراء، في شهر شباط/فبراير من عام 2006، نقطة تحوّل ومؤشّراً خطيراً جداً على حقيقة وطبيعة الأجندات والمشاريع الإرهابية، التي أريد من ورائها إثارة الفتنة بين أبناء المجتمع الواحد، وإغراق البلاد في أتون حرب أهلية دموية لا تبقي ولا تذر. ولم يتردّد في حينه تنظيم القاعدة الإرهابي في إعلان مسؤوليته عن ذلك العمل الإجرامي الفظيع، ولولا حكمة المرجعية الدينية في النجف الأشرف في التعاطي مع الحدث، لكانت الأمور قد انزلقت إلى ما لا يحمد عقباه.
ولكن ذلك لم يكن ليعني أنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام، لأنّ الفتنة شغلت مساحات غير قليلة، ومسلسل الاستهداف الإرهابي تواصل من دون انقطاع في بغداد والنجف وكربلاء وبابل، من دون أن يستثني الأنبار وديالى وكركوك وأربيل وصلاح الدين ومدن العراق الأخرى.
وحينما انحسر أو تراجع وجود وحضور تنظيم القاعدة، أو ربما بعد أن تغيّرت أولوياته، ظهر تنظيم "داعش" ليواصل مسيرة الإرهاب بوتيرة أسرع وزخم أكبر، مع الإبقاء على استهداف المراقد والمقامات والرموز الدينية، وتحديداً الشيعية، على رأس أولوياته. وكان ذلك واضحاً في العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان والكويت، وكذلك في إيران.
والملاحظ أنّ اتساع مديات الإرهاب التكفيري، ترافق مع توسّع الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، ارتباطاً بالحرب ضد أفغانستان في عام 2001، ومن ثمّ الحرب ضد العراق وغزوه واحتلاله في عام 2003، وبعد ذلك اندلاع الأزمة السورية في عام 2011 وارتباك الأوضاع فيها إلى حد كبير.
وبدلاً من أن تساهم الأساطيل العسكرية الأميركية الضخمة في محاربة الإرهاب فعلاً كما هي الشعارات البرّاقة التي كانت وما زالت ترفعها وتتبجّح بها الولايات المتحدة الاميركية، فإن الجماعات والتنظيمات الإرهابية وجدت في الحضور العسكري الأميركي مظلة حماية جيدة، وإن لم تكن مباشرة وصريحة.
والنقطة الأخرى المهمة في هذا الجانب، هي أن الإرهاب التكفيري غالباً ما استهدف الدول والقوى والأطراف والجماعات المعادية للولايات المتحدة و"إسرائيل"، بينما ظلت الدول والأطراف والقوى والجماعات القريبة من واشنطن و"تل أبيب" بمنأى عن إرهاب القاعدة و"داعش" وغيرهما من العناوين والمسمّيات الإرهابية. ولعلها لم تكن مصادفة أن يغرق العراق في وقت من الأوقات بالعمليات الإرهابية، بينما دول قريبة منه كانت تنعم بالأمن والأمان وكأنها تعيش في كوكب آخر!
صحيح أن التنظيمات والجماعات الإرهابية استهدفت مختلف المكوّنات الدينية والقومية والمذهبية والاجتماعية، إلّا أنّ حجم استهدافها للمكوّن الشيعي، ولكل ما يندرج تحت عنوان محور المقاومة أو يمت إليه بصلة، كان أكبر بكثير، والمصداق على ذلك ليس بقليل في العراق بالدرجة الأساس، وفي سوريا وباكستان وأفغانستان، إذ كانت الجوامع والحسينيات والتجمّعات الدينية لأتباع المذهب الشيعي تشكّل على طول الخط هدفاً رئيساً للجماعات الإرهابية التكفيرية.
ويبدو أنّ هجوم شيراز الإرهابي الأخير، وكذلك الذي سبقه قبل عشرة شهور، لا يخرج عن سياق الأجندات والمشاريع التي طبّقت في العراق وأماكن أخرى، بيد أنها لأسباب وظروف وعوامل مختلفة، واضحة وغير واضحة، وصلت إلى طريق مسدود. علماً أن إيران لم تكن بعيدة بأي حال من الأحوال عن كل تلك الأجندات والمشاريع، لأنها بشكل أو بآخر، مثّلت العمق العقائديّ لجزء كبير من غالبية الشعب العراقي، ولأنّ لها علاقات وروابط تأريخيّة مع معظم القوى والتيارات السياسية العراقية، ولا سيما الشيعية منها.
وتعود تلك العلاقات والروابط إلى مرحلة المعارضة، حيث كانت إيران أحد أبرز الداعمين والمساندين لحركة المعارضة ضد نظام صدام في العراق على امتداد ربع قرن من الزمن، فضلاً عن كونها تمثّل في هذه المرحلة حجر الزاوية في محور، أو جبهة، المقاومة. ومجرد عدائها وخصومتها مع الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، يجعلها دوماً في دائرة الاستهداف متعدّد المظاهر والأساليب والأشكال.
وكان واضحاً وجليّاً خلال البضعة أعوام الماضية، أن مظاهر وأساليب وأشكال الاستهداف لإيران اختلفت من جانب وتوسّعت من جانب آخر، بعدما تبيّن عدم جدوى شن الحروب العسكرية، وفشل العقوبات الاقتصادية والحصار، وعجز المعارضة الإيرانية المدعومة بقوة من الخارج عن فعل أي شيء ذي قيمة ويعتد به.
وكان أسلوب تحريك وإثارة الشارع بالتزامن مع الضغوطات الاقتصادية الشديدة، هو الأبرز، إلى جانب البحث عن المناطق والنقاط الرخوة أمنياً والهشّة مجتمعياً، لإحداث الفوضى والاضطرابات فيها من خلال إثارة الفتن المذهبية والطائفية وشنّ العمليات الإرهابية، بشكل لا يختلف من حيث الجوهر والمضمون عن المنهج الذي اتبعه أصحاب الأجندات والمشاريع التخريبية الإرهابية والأدوات المحرّكة لتلك الأجندات والمشاريع في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان وغيرها.
وعند التعمّق والتدقيق في مجمل الوقائع والأحداث وتتبّع الخيوط المحرّكة لها، نجد أنّ استهداف المراقد والمقامات والرموز الدينية في العراق وسواه، وتفجيرات إيران، والإساءات والتجاوزات الإعلامية الفاضحة ضد الرسول الأكرم محمد (ص)، وإحراق القرآن الكريم وتدنيسه، ومحاربة الحجاب والتشجيع على التحلّل والانحراف، وصبّ الزيت على نيران الخلافات والفتن الإسلامية الداخلية، يلتقي كل ذلك ويتمحور حول هدف واحد لم يعد خافياً على أحد.
ومثلما كان العراق، وربما ما زال، بؤرة ومحوراً للاستهداف، فإن إيران هي الأخرى كانت وما زالت وستبقى كذلك، ما دامت متمسّكة بسياساتها ومواقفها وثوابتها، وهجوم شيراز لن يكون آخر المحاولات اليائسة لتطويعها وتركيعها واستسلامها.