بين التناغم والتباين: مار مخايل إلى أين؟
يقف التيار الوطني الحر اليوم أمام منعطف غير مسبوق في مسيرته السياسية، فهو بعد نهاية ولاية الرئيس عون أصبح أمام تحديات صعبة، وعليه أن يواجهها في وقت قصير.
يعدّ التناغم في التفاهمات السياسية أمراً ضرورياً، إلا أنَّ نجاح أي تفاهم يعتمد على أداء كل طرف ومصلحته. تحل الذكرى السابعة عشرة لتوقيع التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله في مار مخايل في ظل أجواء يشوبها الكثير من التباينات.
وقد كثرت في الآونة الأخيرة الشكوك في إمكانية استمرار الطرفين في هذا التفاهم، فهل بات تعارض المصالح هو المسيطر على طبيعة العلاقة بينهما أو أن هذه التباينات ستكون الدافع والمحفّز لتطوير الاتفاق، كما صرّحت قيادات الطرفين غير مرّة في الآونة الأخيرة؟
مرّ تحالف مار مخايل بالكثير من التحديات خلال أكثر من 16 عاماً، إلا أن الانطباع العام الذي كان يسود دائماً هو أن التيار والحزب يدركان بشكل جيّد كل هذه الأخطار والتحديات. وقد أثبتا أنهما على قدر مستواها، ونجحا بشكل كبير في تجاوز كل المطبّات والألغام من دون أيِّ خسائر تذكر.
أما اليوم، فقد عادت الانقسامات الداخلية بشكل عمودي حول الاستحقاقات الدستورية، وخصوصاً تلك المتعلقة بالرئاسة الأولى، إضافة إلى المعضلة المستجدّة حول دستورية اجتماعات حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي، إذ تمظهر في الآونة الأخيرة التباين في وجهات النظر بين الحزب والتيار بشكل كبير، فالأول يتفق ويتناغم مع حركة أمل والرئيس ميقاتي، والآخر يتعارض مع كل هؤلاء الأطراف، بمن فيهم الحليف.
قال السيد نصر الله في كلمته نهار الثلاثاء الماضي عن هذه القضية: "نحن في حزب الله نعتقد من خلال اطلاعنا ودراساتنا الدستورية أن اجتماع الحكومة تحت إطار الضروريات دستوري"، فيما يعتقد النائب جبران باسيل أن المشاركة في اجتماعات حكومة تصريف الأعمال تتعارض مع الدستور والميثاقية، وخصوصاً في ظل الشغور الرئاسي.
من الواضح أن حزب الله فشل في إقناع التيار بوجهة نظره، كما أن التيار فشل بدوره في إقناع الحزب بعدم المشاركة في جلسة نهار الأربعاء الماضي، ولكنْ هل هذا الاختلاف وحالة عدم التناغم بين الطرفين متعلقان فقط بهذه النقطة أم أن هناك نقاطاً خلافية أخرى يتجنّبان الحديث عنها في العلن بشكل واضح؟
لا شكّ في أن الاستحقاق الرئاسي في هذه الأيّام هو الشغل الشاغل في الداخل اللبناني، وخصوصاً بعد كل ما مرّ به لبنان من أزمات كبيرة في عهد الرئيس عون، الذي حملته قوى كثيرة مسؤولية الانهيار أحياناً ومسؤولية عدم إدارة الأزمة الاقتصادية بصورة فعّالة وإيجابية أحياناً أخرى.
يقف التيار الوطني الحر اليوم أمام منعطف غير مسبوق في مسيرته السياسية، فهو بعد نهاية ولاية الرئيس عون أصبح أمام تحديات صعبة، وعليه أن يواجهها في وقت قصير. من أهم هذه التحديات وقف النزيف في شعبيته، وخصوصاً بعد تراجع حجم كتلته في الانتخابات النيابية الأخيرة. هل مار مخايل بوضعه الحالي قادر فعلاً على مساعدة التيار بهذه المهمّة أم أن التباينات الحالية مع حزب الله تعقّدها عليه؟
ثانياً، وليس بعيداً من التحدي الأول، الملف الرئاسي الذي يبدو من أكثر الملفات العالقة من دون حلول واضحة إلى الآن بين التيار والحزب. واليوم، يزيد من تعقيده الوضع الشعبي والسياسي للتيار، بحيث يبدو أنَّ حزب الله لا يزال يحاول تسويق الوزير السابق سليمان فرنجيه كمرشح توافقي من دون أن يتبناه في العلن، تجنباً لأي إحراج له أمام الخارج تحديداً.
النائب جبران باسيل يرفض بشكل واضح وصريح ترشيح فرنجيه. قد يكون هذا الأمر منطقياً من زاوية التيار الضيقة، بحيث إنَّ وصول أي خصم مسيحي لباسيل لن يساعده في وقف تراجع شعبيته، كما أن انخراطه في تفاهم سياسي مع فرنجيه سيصعب تسويقه شعبياً وإعلامياً، وخصوصاً بعد كل السجالات السياسية والإعلامية التي حصلت بين الطرفين خلال عهد الرئيس عون.
عطفاً على ما سبق، إنَّ هذا الاختلاف بين التيار والحزب، الذي يصل إلى حد الخلاف السياسي، يحتاج إلى الكثير من التمعّن والدراسة، وإلا فإنَّ نهايته قد تكون سلبية لتحالف استمرّ طويلاً وجنّب لبنان الكثير من الأثمان الباهظة، ولن أبالغ إذا قلت إنَّه جنّبنا حرباً أهلية في الكثير من الأحيان، وحافظ على السلم الأهلي، وكسر الانقسامات العمودية، وخصوصاً في مرحلة ما بعد "ثورة الأرز".
كما أنَّ هذا التفاهم ساهم في انتصار تموز 2006 من الناحية الاجتماعية والسياسية، فالمقاومة في لبنان كانت في حينها تتعرّض لأبشع أنواع الحروب والمؤامرات، وكانت هدفاً في السرّ والعلن لقوى خارجيّة كثيرة، وليست "إسرائيل" فقط!
والأهمّ أنَّ مار مخايل أعطى نموذجاً جيّداً وغير مسبوق في تاريخ لبنان الحديث عن كيفية بناء التحالفات والتفاهمات السياسية، وعن كيفية العمل على دمج أبناء المجتمع اللبناني على الصعيد القاعدة الشعبية، انطلاقاً من صدق القيادات وحكمتها.
أمّا وقد وصل التفاهم إلى مرحلة مفصلية من تاريخه، فإنَّ من الخطأ في مكان تحميل أيٍّ من الطرفين مسؤولية حالة عدم التناغم الحاصلة اليوم بينهما من دون التطرّق إلى مجمل العوامل الداخلية والخارجية، ففي لبنان، بعد الانهيار وأزمة الحكم التي يعيشها اليوم، أصبحت كل القوى السياسية في أزمة داخلية، وإن اختلفت النسب، وهذا بطبيعة الحال ينعكس على تحالف كلٍّ جهة منها مع الأخرى.
والجدير بالذكر هنا، منذ توقيع التفاهم، أن مار مخايل تحوّل إلى مركز الثقل السياسي الذي تتمحور حوله كل التغيّرات والمستجدات والتوازنات، وحتى المؤامرات الخارجية. وقد أصبح مع مرور السنوات أقوى تحالف من دون أي منازع في اللعبة السياسية الداخلية. ومن خلاله، استطاع الطرفان أن يتحكما نوعاً ما في نسق الوضع السياسي في لبنان، وفي قواعد اللعبة إلى حد كبير.
كان التحالف عامل جذب لتفاهمات متعدّدة بين الحزب وقوى سياسية أخرى، وبين التيار وأحزاب في المقلب الآخر. أوج قوّة الجذب هذه كانت بين عامي 2015 و2016، إذ استطاع حلف مار مخايل، وليس التيار الوطني الحر وحده، أن يجذب كلاً من تيار المستقبل والقوات اللبنانية، وهذا ما كان ليحدث لولا صمود مار مخايل وتناغم التيار والحزب في حينها.
ولكن التحوّلات الداخلية التي كان معظمها بإيعاز خارجي أفقدت هذا التحالف الكثير من قوته نسبياً مقارنة في مرحلة ما قبل الانهيار، وتحوّل مركز الثقل السياسي في لبنان من مار مخايل إلى حارة حريك-عين التينة، وأصبح الثنائي أمل – حزب الله أكثر تحكّماً في النسق العام للعبة السياسة نوعاً ما، وخصوصاً مع تزايد الحديث عن عقد مؤتمر تأسيسي جديد أو حوار وطني كسبيل للخروج من عنق الزجاجة الذي يرزح فيه لبنان.
لهذا، إن العوامل الداخلية والتوازنات الخارجية كانت وما زالت الأساس في لبنان، وهي التي تحدّد معظم قواعد اللعبة السياسية. أما الذين ينتقدون اتفاق مار مخايل اليوم، كما فعلوا طوال 16 عاماً، فأتمنّى أن يجيبوا عن هذه التساؤلات: ما البديل للتفاهمات السياسية؟
وإذا كان أحدنا يرى أن المشكلة في مار مخايل، فما النموذج البديل الذي تقدمه باقي القوى السياسية؟ هل هناك إمكانية لبناء الدولة والمحافظة على استقرارها من دون هذه التفاهمات؟ إذا كان تفاهم مار مخايل قد فشل في أن يُعمّم على الجميع، كما فشل في بنده الرابع المتعلق ببناء الدولة، فهل يحقق عدم التفاهم ما عجز عنه التفاهم؟
يقول الكاتب الروسي دويستويفسكي: "المرء غالباً ما يركّز على عدِّ مشاكله، لكنه لا يحسب أبداً لحظات سعادته". من الظلم بمكان أن يتناسى أحدنا لحظات السلام والصدق والتناغم بين المقاومة والتيار، ويركّز على المشكلات والتباينات الحالية، ويصنع منها توتّرات داخلية، سواء كان في الإعلام أو في وسائل التواصل الاجتماعي. ما يحتاجه لبنان الذي نحب هو أن نبحث دائماً عن سبل للتواصل والتفاهم.
في النهاية، إنّ استمرار التناغم بين طرفين يحتاج بالضرورة إلى التجدّد؛ ففي ظلّ الجمود، يتحوّل التناغم إلى ملل، وربما لاحقاً إلى نفور وتباعد... لهذا، التناغم يحتاج ويستأهل منّا جهوداً كبيرة لكي نحافظ على نعمة وجوده في حياتنا، فمن دونه لا حياة ولا استمرارية لأي علاقة، مهما كانت طبيعتها.