بوتين يبعث رسالة مهمة إلى واشنطن.. عهد المركزية العالمية انتهى

سيبقى السجال قائماً بين الدولتين العظميين ما دامت أميركا تعامل روسيا على أنها من الدرجة الثانية.

  • الطرف الأميركي يغلب عليه التوتر والاضطراب
    الطرف الأميركي يغلب عليه التوتر والاضطراب

فهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اللعبة الأميركية باكراً، وها هو اليوم يلعب على أوتارها، وهو ليس الخبّ الذي يسعى لتدمير إمبراطورتيه، وليس المتهوّر الذي يرغب في تشتيت أمّته، ولكنه فعل كلّ ذلك ليعلّم الولايات المتحدة الأميركية درساً بليغاً، وهو أن الأحادية العالمية انتهت، والعالم أصبح متعدّد الأقطاب، والمفهوم البراغماتي للعالم ولّى واندثر.

هذه الحقيقة العلمية - إن صحّ التعبير - دأب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ترسيخها منذ زمن بعيد، إلا أنَّ المنطق الأميركي المتعالي على الجميع هو الذي جعل الرؤساء المتعاقبين على الحكم يعتقدون أن لا سُلطة أعلى في العالم ولا قوة أعتى من سلطة أميركا وقوتها، لكن الوقائع تثبت اليوم أنَّ الوضع تغيّر تماماً بعد أن تفوّقت روسيا على أميركا على مستوى الأسلحة النووية والأسلحة ذات السرعة الضوئية، فقد ذكرت الإحصاءات أنَّ روسيا تملك اليوم رؤوساً نووية أكثر من الولايات المتحدة الأميركية بألفي رأس تقريباً، كما أنَّها تملك صواريخ تفوق سرعة الضوء، مما يصعب رصدها أو يستحيل تتبّعها.

ومما يفسّر القوة الروسية اليوم أنَّها تتعامل مع المنطق الأميركي بكل جدّية، وتفرض واقعاً جديداً على الأرض لم يخطر على بال أميركا. وما قامت به روسيا إلى حدّ الآن ما هو إلا مقدمة صغيرة لما يمكن أن تفعله في المستقبل في ما لو تمادت أميركا في استعلائها وفرض لغة القوة على الأرض، فأوكرانيا جمهورية سوفياتية قديمة استقلَّت عن الاتحاد السوفياتي بعد انهياره، وما زال الحلم البوتيني يراود الرئيس الروسي لإرجاعها إلى المنظومة القائمة، ويبدو أن ذلك مسألة وقت ليس أكثر.

الطرف الأميركي يغلب عليه التوتر والاضطراب، فمرة يلوّح بالعقوبات الاقتصادية، ومرة يهدّد بعزل روسيا عن المجتمع الدولي، ومرة يحاول نشر جنوده وصواريخه في أوروبا بزعم الدفاع عن أوكرانيا، ويسايره في ذلك الحلف الأطلسي؛ الطرف الخفي في المعركة، رغم ظهوره في الساحة، فالمعركة الحقيقية ليست بين روسيا وأوكرانيا أو بين روسيا وأوروبا أو الغرب، كما يقال، إنما هي، بحسب رأيي، بين أميركا وروسيا، لأنَّها في الأساس معركة استراتيجية تخضع لمعايير المصالح القومية لكل بلد، ونحن نرى السجال القائم والدائر بينهما يحتدم ويحتدّ أحياناً، ويرخي سدوله أحياناً أخرى.

تريد روسيا من خلال هذا السجال أن تُخضع الطرف الأميركي للمنطق والواقع الجديد بلغة يفهمها، كما تريد أن تُحاوره على محاور عدة، فمحور أوكرانيا ما هو سوى جزء من منظومة حوار عميق تريد روسيا أن تمرّره عبر هذه التحركات العسكرية على الحدود مع أوكرانيا، فهي لا تريد حرباً شاملة الآن على الأقل، لأنها ليست مضطرة إليها، كما أعلنت أكثر من مرة، إنما الهدف الأساس هو قضّ مضجع الأميركيين، وإفهامهم أنهم ليسوا وحدهم أصحاب القرار في العالم، ولفت أنظارهم إلى الأقطاب الجديدة الموجودة في الساحة، كالصين وروسيا، وهم قطبان ينافسان أميركا في بسط النفوذ وصدور القرار.

كما تريد روسيا إظهار أنّ الأحداث العالمية المتغيرة دوماً، لا ينبغي للولايات المتحدة الأميركية أن تتخذ فيها أوامرها وحدها، بل عليها أن تُشرك الأقطاب الجديدة في الحوار، ليبقى التوازن قائماً على الدوام. أما أن تتجاهل وتتعنّت وتتعسّف في استعمال الحق الذي وضعته لنفسها فقط، فذلك مما يغضب التنين الصيني والدب الروسي معاً.

وهناك ملفات أخرى لا تقل أهمية عن الملف الأوكراني، كالملفّ الإيراني والملف السوري وغيرهما من الملفات، فلطالما تحدثت روسيا عن الاحتلال الأميركي لسوريا، وطالبت أميركا بالخروج من هذا البلد، لأنها تسببت بمآسٍ كثيرة وكوارث عظيمة، لعل أبرزها السماح للميليشيات الإرهابية بالتوافد إلى سوريا من خلال تركيا إبان الحرب المدمرة على سوريا. 

وهناك تقارير إعلامية تفيد بأنَّ أميركا كانت تمول الإرهاب في سوريا طمعاً بإطاحة الرئيس بشار الأسد. ولعلَّ لقاء السيناتور الجمهوري جون مكين في إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قادةَ "الجيش السوري الحر" - كما كان يُسمى آنذاك - عزز هذه الفرضية.

كما أنّ لروسيا دوراً كبيراً في المحادثات التي تجري في فيينا، من خلال تقريب وجهات النظر ومحاولة إيجاد صيغة توافقية بين طهران وواشنطن لتجاوز العقبات التي ما زالت تؤرّق المفاوضين في هذا الملف.

لهذا، إن الربط بين جميع هذه الملفات مهم للروس لإعطاء زخم كبير لما يحدث في العالم، وإقامة الحجة على أميركا، حتى لا تتصرف بمفردها في ملفات عالمية يجدر بها أن تتشاور فيها مع القوى الكبرى. وتعترف الولايات المتحدة الأميركية تلويحاً وتصريحاً بأنها غير قادرة على احتواء جميع هذه الملفات في عصر ضعفت فيه كثيراً أمام صعود قوى كبرى مماثلة تحاكيها وتتفوّق عليها، مثل روسيا والصين.

على الأرجح، سيبقى السجال قائماً بين الدولتين العظميين ما دامت أميركا تعامل روسيا على أنها من الدرجة الثانية، ولا تضاهيها في القوة والمكانة العالمية، وما دامت روسيا مصرة على تغيير المنطق الأميركي على الأرض، وهو الهدف الأساس الذي يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يصل إليه بأيِّ حال من الأحوال.