بمفهوم الحروب الحديثة: "إسرائيل" لن تنتصر وحماس لن تُهزم!
ثمة عصر جديد وتحول مفصلي في تاريخ القضية الفلسطينية بدأ في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وقادة الصهاينة سيقرون بالهزيمة عاجلاً أو آجلاً، وقد بدأوا يقرون بالفعل بخيبتهم.
عام 2012، كنت في لقاء مع جنرال إيطالي يعمل ضمن قوات اليونيفيل في جنوب لبنان، وكان الحديث حول مآلات الحرب على سوريا التي كانت في بداياتها. وضمن السياق، تطرقنا إلى لبنان وموازين القوى بين المقاومة والكيان الصهيوني، فسألته: من ربح حرب تموز 2006؟
كان جوابه مفاجئاً لي، ولم أكن حينها على دراية بتلك الجدلية التي اختصرها بجملة واحدة: "إسرائيل لم تنتصر، وحزب الله لم يُهزم".
جدلية النصر والهزيمة في الحروب الحديثة كانت مثار نقاش دائم بين الباحثين والمفكرين. كتب ومقالات وتقارير كثيرة تناولت هذه المعضلة، وما زالت، وإن اختلفت الآراء حول محددات النصر والهزيمة، إلا أن الثابت لدى الجميع أن فكرة النصر الحاسم في حروب القرن الواحد والعشرين باتت من الماضي.
يرى الباحثون أن توقيع اليابان على وثيقة الاستسلام يوم 2 أيلول/سبتمبر 1945، التي وضعت حداً للحرب العالمية الثانية، كان آخر انتصار واضح المعالم ولا لبس فيه، ثم انتقلنا إلى حقبة جديدة في التاريخ الإنساني، والحروب إحدى أبرز تجليات التحولات المجتمعية، فبدأ عصر الحروب الحديثة وغموض نهاياتها الذي فتح باب البحث عن ضرورة وضع تعريف جديد لمفهوم النصر.
هذا ما أشار إليه أستاذ العلوم السياسية في جامعة "غلاسكو" في اسكتلندا سيان أودريسكول في مقال نشره موقع "كونفرزيشن": "حان الوقت للتفكير مرة أخرى، وبشكل أعمق مما فعلنا من قبل، في معنى النصر في حروب اليوم".
وتابع: "إن شبح الحروب المعاصرة التي لا تنتهي يجعلنا نعيد التفكير في فكرة النصر. هل تكتسب دلالة خاصة ومختلفة في الحالة المعاصرة". وأضاف: "أصبحتُ أؤمن بأن فكرة النصر في الحروب الحديثة ليست أكثر من أسطورة".
رؤية أودريسكول لمفهوم النصر في الحروب الحديثة تؤيدها عدة حروب حصلت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأغلبها في منطقة الشرق الأوسط، مثل الحرب الإسرائيلية على لبنان العام 2006 وحربي أميركا على أفغانستان والعراق. ورغم إكثار التبريرات الأميركية لأسباب حروبها ونتائجها، فإن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب طرح سؤالاً محرجاً في أحد الاجتماعات: "لماذا لم تعد أميركا تنتصر في حروبها؟".
سؤال ترامب منطقي وجوهري، فلا يناقش أحد في العالم حقيقة التفوق الأميركي العسكري والاستخباري والتكنولوجي المطلق على باقي دول العالم، فلماذا تعجز هذه القوة العاتية عن تحقيق انتصارات حاسمة في حروبها؟ وكيف لجيشها الجبار أن ينسحب بالطريقة المذلة من أفغانستان في 31-8-2021 مع صورة من مطار "حميد كرزاي" في كابول أعادت إلى الأذهان صورة آخر مروحية خرجت من فيتنام عام 1974؟
يقول المفكر الإستراتيجي كارل فون كلاوزفيتز في كتابه "عن الحرب": "الحرب صراع مادي وأخلاقي، والقوى الأخلاقية قد توازن عدم تكافؤ القوى المادية"، ويرى أن "المُدافع، وإن كان ضعيفاً مادياً، هو الأقوى على المدى البعيد، ذلك أن فاعلاً مهماً يشكل حاضنة للقضية العادلة، وهو الرأي العام محلياً، وفي بعض الحالات دولياً أيضاً."
هذا الاقتباس من الجنرال البروسي يختصر الصراع العربي الصهيوني على أرض فلسطين، ويؤكد استحالة انتصار "إسرائيل" على غزة، وعدم إمكانية شطب القضية الفلسطينية من المعادلة، مهما تعاظمت قوة العدو العسكرية، ومهما تكاتفت حوله القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
ولأننا اليوم أمام أكثر الحروب الإسرائيلية تعقيداً ومصيرية، والتي وصفها رئيس وزراء الكيان منذ اليوم الأول بأنها "حرب وجودية"، ولأن نتنياهو يخوض حرباً شخصية تتعلق بمستقبله السياسي الأسود، وهو يرهن، بحسب عدة محللين صهاينة، مستقبل الكيان بمستقبله، فمن المفيد العودة سنوات قليلة إلى الوراء للوقوف على رأي راجح كتبه الكاتب والسياسي الصهيوني أبراهام بورغ في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 6-1-2009 في أعقاب عملية "الرصاص المصبوب" التي شنتها "إسرائيل" على قطاع غزة، والتي انتهت بالفشل.
يقول بورغ: "منذ حرب الأيام الستة (1967) لم نعد ننتصر. نجحنا في أن ننجو من مصيبة 1973، وتورطنا ولكننا نجونا عام 1982، والأمثلة الأخرى كثيرة، فلماذا يحصل هذا؟ لماذا تنتهي حروبنا بسجل دائم من الغموض؟ أعتقد أن الانتصار في الحروب لم يعد ممكناً، فكيف نعيد تعريفه؟ إذا كان هدف الحرب هو إبادة العدو، فهذه الحرب مآلها الفشل لأسباب معروفة لنا جيداً، فلم يعد ممكناً إبادة شعوب أو، للأسف، قمع طموحاتهم للاستقلال."
هذا بالضبط ما يطمح إليه نتنياهو وحكومته المتطرفة والفاقدة للوعي منذ عملية "طوفان الأقصى". يريدون إبادة الشعب الفلسطيني أو بالحد الأدنى قمع طموحهم للاستقلال والعيش بحرية وكرامة، ولكن التاريخ والواقع وقوة الحق الأقوى من حق القوة تقول غير ذلك.
وليس بعيداً من كلام بورغ نشر مقال قبل يومين في موقع "N12" الإسرائيلي قال كاتبه: "كانت الضربة الافتتاحية التي وجهها العدو إلينا وحشية وفظيعة. مثّل "السبت الأسود" في 7 تشرين الأول/أكتوبر إخفاقاً عاماً لمنظومة الأمن الإسرائيلية. علينا أن نقول باستقامة وصدق إنه ما من نصر، مهما عَظُم، يمكنه محو عار هذه الصدمة."
لقد تغير العالم فعلاً، والمفاهيم التي كانت ثابتة باتت متحركة، وغزة التي تدفع من دم أطفالها ونسائها وأبريائها ثمن وحشية العدو الصهيوني لن تهزم، و"إسرائيل" التي تُفرط في الإجرام والقتل لن تنتصر.
ثمة عصر جديد وتحول مفصلي في تاريخ القضية الفلسطينية بدأ في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وقادة الصهاينة سيقرون بالهزيمة عاجلاً أو آجلاً، وقد بدأوا يقرون بالفعل بخيبتهم.
وإذا تمت صفقة تبادل الأسرى والهدنة المفترضة، فستكون الصفعة السياسية والعسكرية والأمنية الأولى بعد "طوفان الأقصى"، وسيكون وقعها أقسى، لأنها أتت بعد أسابيع من الحرب لتثبت وهن الجيش الصهيوني وتخبط قيادة الكيان على المستويات كافة، في مقابل ثبات وقوة وصبر وصمود المقاومة وبيئتها الحاضنة.