انتظرها.. حكاية والدة الأسير يعقوب قادري
كانت أم الأسير "يعقوب قادري" تنتظر طفلها عشرين عاماً على قمة الأمل، ومن أجل هذا الأمل بحث "يعقوب" عن الضوء داخل النفق.
السجن هو الانتظار. تجلس على "البرش" كل ليلة تحاكي الأمل أنها الليلة الأخيرة التي تنام فيها خلف الأبواب المغلقة على الشمس. تنهض صباحاً، تقف مقابل السجان الذي يمارس عليك كل أنواع الإرهاب النفسي، وتقول لذاتك المليئة بذكريات الحنين إلى الماضي: إنه اليوم الأخير الذي أتناول فيه طعام عديم الطعم، من دون كوب شاي بجانب من نحب. السجن فعلاً هو الانتظار.
إذا كنت سجيناً من الأحكام الصغيرة، تقوم بتدوين الأيام التي قضيتها داخل الزنزانة، وبعينيك الممتلئتين بصور الشمس على بوابة السجن تنظر إلى الأيام الباقية، وبغصّة تدرك أنها سوف تمر. وإذا كنت سجيناً من الأحكام العالية "المؤبّدة" مثلاً، تبقى تنتظر "الحرب" التي حتماً سوف تنتج "صفقة" تتحرّر من خلالها، ويفتح لك الباب السجّان نفسه الذي أغلقه عليك. السجن بالنسبة إلى هؤلاء هو "الصفقة".
يقول ألبير كامو في روايته "الغريب": "لكنا، نضعكم في السجن لهذا الغرض بالذات، كيف، لهذا الغرض؟ أجل، الحرية، هي ذا المقصود، إننا نحرمكم الحرية، وما كنت قد فكرت من قبل في هذا، قلت له: أجل، وإلا أين ستكمن العقوبة؟ والأسرى يدركون هذه الحقيقة، أن القضية بالنسبة إليهم هي "الحرية"، ولكنهم يتمسّكون بالأمل كما الغريق الباحث عن قشة، وهذا الأمل هو المقاومة التي حتماً سوف تمنحهم الحرية، لأنهم مقتنعون تماماً بأن تاريخ الحرية لا يصنع بأيدي ناعمة استساغت مصافحة الأعداء.
في سجن "عوفر"، كان شهر نيسان/ أبريل 2010 يقاتل بحرارته قضبان السجن. كانت الساعة تقارب الثالثة عصراً. أغلب الأسرى يمارسون نشاطهم اليومي بالحصول على "القيلولة". كان الصمت والهدوء يَعُمّان الساحة "الفورة"، وفجأة أحد الأسرى داخل الغرفة الرقم "2" يصرخ وينادي على أسير آخر، ويقول له: أرجوك، أحتاج إلى مكالمة هاتفية. يقول له الأسير الآخر: ماذا حصل؟ قبض الأسير بيديه على قضبان نافذة الزنزانة وقال: توفي والدي، ولم يقل له: يبدو أن والدي قد توفي. لقد شاهدت كيف كان متأكداً من ذلك، وكان يدرك أن خيط الحقيقة سيكون عليه داخل السجن أصعب بكثير من الخارج، أو ربما كان ينتظر من يأتي ويواسيه، ولذلك نطق الألم بداخله.
هذا المشهد جاء من الذاكرة عندما قرأت خبر رحيل والدة الأسير "يعقوب قادري"، أحد أبطال نفق الحرية. لقد كان مشهداً محفوراً في الذاكرة ومدفوناً فيها، ولكن دائماً الاحتلال ينبش هذه الذكريات من جديد. هذا هو الاحتلال، يقلتنا بالذاكرة أكثر من مرة في المشهد نفسه، خصوصاً أن الأسير "يعقوب قادري" من نافذة باب الزنزانة قبض بيديه على القضبان، وصرخ على أحد الأسرى في الأقسام الأخرى يطلب منه التأكد من صحة خبر وفاة والدته، على الرغم من أنه يعلم أن الخبر صحيح.
يقول غسان كنفاني في روايته أم سعد، كأنه يقصد والدة الأسير "يعقوب قادري": " قد كان صوتها دائماً بالنسبة إليّ هو صوت تلك الطبقة الفلسطينية التي دفعت غالياً ثمن الهزيمة، والتي تقف الآن تحت سقف البؤس الواطئ في الصف الأول من المعركة، وتدفع، وتظل تدفع، أكثر من الجميع". وكما أم سعد انتظرت السلاح عشرين عاماً، كانت أم الأسير "يعقوب قادري" تنتظر طفلها عشرين عاماً على قمة الأمل، ومن أجل هذا الأمل بحث "يعقوب" عن النفق، وأكثر عن الضوء داخل النفق، لأنه كان يعلم أن السياسيين في وطنه قد سرقوا النفق وكسروا الضوء، ولم يتبقَّ أمامه سوى ملعقة الطعام التي يأكل فيها، والتي تذكّره بصوت أمه التي كانت تقوم بإطعامه وتقول له: "يلا حبيبي آخر لقمة، يلا، يلا، طيااااارة".
والدة الأسير يعقوب هي أم سعد التي كانت تذهب بالطعام إلى الجبال من أجل أن يعثر عليه المقاومون بالبنادق. فعلى مدار عشرين عاماً كانت الحاجة "عطفة عبد اللطيف قادري" تحمل معها الملابس والصور، وتقرع بالأمل أبواب السجون لرؤية طفلها. وعلى مدار هذه الأعوام استطاعت أن تحتضنه أربع مرات، وتعود إلى سريرها كما العاشقة التي تعود ورائحة عشيقها على يديها، وتعلّق أم الأسير "قادري" الصور على جدران الأحبة كذكرى لقصة عشق خلف أقفال السجون التي سوف تتكسّر يوماً ما، وهي التي قالت عندما حُكِم عليه في تشرين الأول/ أكتوبر 2003 بمؤبَّدين و35 عاماً: "الحكم حكم ربنا... هم يحكموا شو ما بدهم، السجن بتسكرش على حد".
صارعت أم يعقوب الموت كما كانت تصارع الاحتلال، على سرير المستشفى لم تخف حرية الروح من الجسد، بل كانت والدموع كحبات الندى صباحاً على ورق التين تتساقط على تجاعيد وجهها، وبهذه الدموع تلخّص حكاية استمرت عشرين عاماً من القهر، والحرمان، والفقدان، وتتذكر أول قطعة ملابس على جسد يعقوب الطفل، وتقول والموت يحاورها، وهي لا تبالي وتحاور الرسالة الأخيرة، للمرة الأخيرة من أجل يعقوب: "ديرو بالكم عليه، زوروه، اطمنوا عليه، جوزوه، سلموا عليه"، وكانت تغرق مع الهذيان وتنساب معه إلى حدّ الجنون. تنهض، تكرّر كلماتها وتعود مع الموت، كأنها ترفض الموت من دون احتضان يعقوب.
وقف النبض أخيراً. سكنت الأنفاس. جفّت الدموع على خديها. أغمضت والدة "يعقوب" عينيها الممتلئتين بيعقوب الذي كان يتسلّل من بين قضبان سجن كحلم ويمنح القلب أنفاساً أخرى، ولكن الاحتلال يقتل فينا لحظة الوداع، مثل أن يأتي يعقوب ويقبّل قدمها عند الموت. ذلك هو الاحتلال يقتلنا ليس فقط بالرصاص والقنابل العنقودية والفوسفور الأبيض، بل يقتلنا أيضاً عندما لم نستطع أن نجهش بالبكاء فوق صدر من نحب، وهو يضعنا في السجون. إن هذه جريمة ليس الاحتلال كفكرة بريء منها.
على مدار خمسة أيام عاش الأسير يعقوب أجمل أيامه تائهاً في وطنه فلسطين، بعد خروجه من نفق الحرية في الـ 6 من أيلول/ سبتمبر 2021، يأكل التين والبرتقال، ويحمل في يديه راديو صغيراً، ويستمع جيداً إلى قلبه الباحث عن حضن والدته عندما كان يقول محمود دروش قصيدته "انتظرها"، ويعقوب كان يردّد معه: "بكوب الشراب المرصّع باللازورد انتظرها... على بركة الماء... حول المساء وزهر الكولونيا انتظرها... بصبر الحصان المُعدّ لمنحدرات الجبال انتظرها... بذوق الأمير الرفيع البديع انتظرها".
لم يُكمل الأسير "يعقوب قادري" القصيدة، لأن الاحتلال كان يعود بالسجن إلى "يعقوب"، ولكن صوت الراديو في زاوية ما يردّد البيت الأخير، بل المقطع الأخير، ويقول محمود درويش: "وربما ماتت! فالموت يعشق فجأةً مثلي... إن الموت مثلي لا يحب الانتظار".