اليسار الإسرائيلي... "شائعة" انتهى زمنها!
بغض النظر عن تصنيفات الأحزاب الإسرائيلية، يسارية أو يمينية، فالطرفان "دفنا الشيخ زِنكو معاً"، ويتقاسمان الأدوار في العمل على تأبيد احتلال الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً القدس، والعمل على ضمها.
مع غياب الرمزين الأوسع شهرة لما كان يسمى اليسار الإسرائيلي (إسحاق رابين، صاحب سياسة "تكسير عظام" الفلسطينيين، واغتيل في تشرين الثاني/نوفمبر 1995، وشمعون بيريز، "حمامة السلام"، الذي أمر بعملية "عناقيد الغضب" ومجزرة قانا، وقضى نحبه عجوزاً منكفئاً في أيلول/سبتمبر 2016)، لم يعد الحديث عن هذا اليسار أكثر من نوعٍ منخفضِ الصوتِ من ثرثرة المقاهي.
مجتمع الاحتلال عموماً بات أشد انجذاباً إلى اليمين المتشدد، وسط تغوّل النعرة العنصرية والعداء المتفاقم ضد الفلسطينيين بصورة خاصة، وكل ما يتصل بالمسلمين والعرب عموماً.
وفي غمرة المقتلة التي يواصلها "جيش" الكيان ومستوطنوه بعيون مفتوحة، تُظهر استطلاعات الرأي انزياحا حاسماً للمجتمع الإسرائيلي في اتجاه التشدد اليميني والعدوانية، بعيداً عن اليسار، مع دعم وحشية المستوطنين والقوى العسكرية في الضفة الغربية وغزّة، وتأييد السياسيين المتطرفين، والمطالبة بإعادة احتلال القطاع وتدمير رفح على رؤوس أهل المنطقة والهاربين إليها.
اليسار "تُهمة بذيئة"
على المستوى السياسي تُمنى الأحزاب الملقبة باليسارية في "إسرائيل" بتراجع مطّرد، على امتداد الأعوام العشرين المنصرمة.
فخلال الدورة الانتخابية الأخيرة، لم يفز حزب العمل (اليساري) بأكثر من أربعة مقاعد فقط في الكنيست، في مقابل المقاعد التسعة عشر التي شغلها عام 2015.
وحزب "ميرتس"، إحدى الواجهات اليسارية الإسرائيلية، والذي لطالما تحدث عن السلام، وشغل مقعداً في الكنيست على امتداد العقد الماضي، أخفق في الحصول على الأصوات الكافية للتأهل في الانتخابات الأخيرة، فانكفأ لاعقاً جراحه.
هذا يعود بنا إلى أوري أفنيري، مؤسس "حركة السلام" (توفي عام 2018)، وكان أبرز ممثلي أقصى اليسار. فهو استشرف الوضع ووصف هذا اليسار في حينه بأنه "أشبه بملاكم ممدد على أرض الحلبة، لا حول له ولا قوة". أما اليوم، فها هي رئيسة حزب العمل، ميراف ميخائيلي، تُعلن استقالتها من منصبها، وتصرّح بأن "لا أحد في إسرائيل يرغب في الحديث عن السلام الآن... لقد أصبح كونك يسارياً تهمة بذيئة".
فإلى أيّ حدّ يمكن لليسار الصهيوني أن يطرح حلاً يتجاوب مع الحقوق الفلسطينيّة، بينما هو يتهافت ولا يطرح مشروعاً مغايراً في جوهره لمشروع اليمين الحاكم الذي ينتشر كالوباء؟
لعبة أكروبات
الحقيقة أن اليسار الإسرائيلي، على بساط الواقع، لم يكن يوماً يساراً في المفهوم التقليدي السائد في العالم. كأنما كان يمارس لعبة أكروبات سياسية لنيل شيء من الحيّز الجماهيري وسط أحزاب مُهيمنة تمسك برقاب مجتمعات الكيان، وإنما من دون أن يتحرر من قيود الصهيونية.
وعلى الرغم من اجتهاده تاريخياً في رفع شعار السلام تحت لافتة "دولتين لشعبين"، ومناداته بالتعايش مع الفلسطينيين، فإنه لم يدفع في هذا الاتجاه بوسائل تكفل الضغط لتحقيقه، ولم يقف يوماً بجدّية في معارضة سياسات الاستيطان والتهويد والتمييز، ولا عمِل مُطلقاً في هذا السبيل في جميع الحكومات التي شكّلها أو انضم إليها.
وعلى العكس من كل ما يُشاع، فهذا اليسار كان مشاركاً في مختلف حروب "إسرائيل" على الفلسطينيين والعرب. وحتى في أكثر تياراته تقدمية، لم يعارض يوماً قيام "إسرائيل" كـ"دولة قومية يهودية" وُلدت من رحم الصهيونية. ومعلومٌ أن حكومات اليسار هي التي شنّت حربي عامي 1967 1973، وقامت باجتياح لبنان عام 1982، وعملت على قمع انتفاضة الحجارة عام 1987... والسلسلة طويلة.
الجدير ذكره أنه، منذ عام 1948، شاركت أحزاب اليسار ("العمل" و"ميرتس") في تشكيل حكومات ائتلافية مع الأحزاب اليمينية، داعمةً سياساتها العدوانية. حتى إن حزب "ماباي" المتشدد في يساريته، هو الذي "أسس" "إسرائيل" في البداية على أكثر من 70% من أرض فلسطين التي استباحها، ثم احتل الجزء الباقي في حرب عام 1967.
والحال، فإنه بغض النظر عن تصنيفات الأحزاب الإسرائيلية، يسارية أو يمينية، فالطرفان "دفنا الشيخ زِنكو معاً"، ويتقاسمان الأدوار في العمل على تأبيد احتلال الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً القدس، والعمل على ضمها.
وبالتالي، لم يتبقَّ من اليسار الإسرائيلي سوى الأكذوبة التي روّجها "الرئيس" محمود عباس باسم "السلطة الفلسطينية" على خلفية "اتفاق أوسلو"، بهدف تبرير تنازلاته الكارثية، وزعمه أن هذا اليسار "أقرب إلينا ومستعد لإعطائنا حقوقنا".
أزمة بلا أفق
على بساط الواقع، يقترب اليسار الإسرائيلي اليوم من أن يكون اسما بلا مُسمّى، بينما تنحسر عنه الهالة الجماهيرية. فالناشط اليساري المتحمس في حراك "نقف معاً"، إلون لي غرين، يشكو انحسار طلبات العضوية في المجموعة إلى اقصى الحدود، ويقابَل بالرفض من البلديات المحلية والشرطة والمستوطنين كلّما حاول تنظيم مسيرات تضامنية بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
والأمر ذاته تتذمر منه مختلف المجموعات المعروفة بيساريتها، مثل "بتسيلم" و"كسر الصمت" وغيرهما، إذ يتعرضون لهجوم شعبي متزايد وسط تجاهل وسائل الإعلام. وفي هذا الاتجاه، تندب الناشطة (السلمية) الإسرائيلية المعروفة، سابير مزراحي، الوضع بالقول: "لا أعتقد أن هناك أكثر من ثمانية أشخاص في جميع أنحاء إسرائيل يمكن أن يحتجوا ضد الجيش في الوقت الراهن".
لقد تداخلت الحدود وتلاشت التباينات بين اليمين واليسار في "إسرائيل"، وأصبحا وجهين لعملة واحدة. يُجمعان على تزخيم ظاهرة العنصرية الاستعلائية ضد الأقلية العربية في أرضها. يتنكر اليسار الصهيوني للحقوق الفلسطينية، ويدعم الأفكار التي يقوم اليمين بتنفيذها. واليمين المتشدد يطرح الشعارات، و"اليسار" يسارع إلى تبنّيها.
هكذا يتجلّى المشهد من دون رتوش: اليسارية (الاستعراضية) تتحوّل من حالة سياسية وظيفية في الكيان إلى أحزاب تسير إلى الزوال، بعد أن فقدت وظيفتها التاريخية التي فرضتها الظروف، وتلفظ آخر انفاسها في "مجتمع" لا يرى في الآخرين، كل الآخرين من غير الصهيونيين، إلا "أغياراً - غوييم" أدنى مرتبة وأحطّ شاناً. وكل الفلسطينيين والعرب والمسلمين على لوحة الهدف.
وكل قناعة بالرواية اليسارية الإسرائيلية، المتناقضة مع الواقع، وصلت في "مجتمعات" الكيان إلى نهايتها التاريخية.
والسير مجدداً في دربها الوهمي يُعيدنا إلى عبارة منسوبة إلى ألبرت آينشتاين، تقول إن "من الجنون أن تفعل الشيء نفسه مرة بعد أخرى وفق الطريقة نفسها، ثم تتوقع نتائج مغايرة".