المعادن النادرة في منافسة القوى الكبرى والصراعات الجيوسياسية
مع توقّعات بارتفاع الطلب العالمي وهيمنة الصين على جزء مؤثّر من إنتاج المعادن النادرة، ستواصل العديد من الدول السعي إلى تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها.
عند الحديث عن المعادن النادرة، قد يظنّ البعض أن ندرتها تتأتّى من قلة المتوافر منها في الطبيعة. لكنّ الحقيقة مخالفة لذلك، حيث أنّ ندرتها تعود إلى وجودها منصهرة مع خامات معادن أخرى، وبالتالي لا يتطلّب الحصول عليها توفّر احتياطات من المعادن فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى امتلاك قدرات متقدّمة لفصلها أو تكريرها أو امتصاصها، لا تتوفّر إلا لدى عددٍ قليل من البلدان.
تدخل المعادن النادرة في الصناعات الأكثر تطوّراً من صناعة أشباه الموصلات إلى مكوّنات الطّاقة المتجدّدة من الألواح الشمسية وبطاريات التخزين القابلة لإعادة الشحن، والسيارات الكهربائية والمحرّكات النفّاثة وصناعة الطيران وحتى الصناعات العسكرية، ولا سيما الأسلحة الفرط صوتية والرادارات والمسيّرات وغيرها.
تطور الاستخراج وارتفاع الطلب
على مرّ العصور، ازداد الطلب العالمي على المعادن النادرة بفعل التزايد السكاني والتطوّر الصّناعي والتكنولوجي، وتشير التّوقعات إلى استمراره في النمو مستقبلاً نظراً لاهتمام الدول الصناعية بتأمين متطلبات صناعاتها، وحرصها على ضمان ما يصطلح على تسميته بأمن سلاسل التوريد. تشير هيئة المسح الجيولوجي الأميركي إلى أن 12 عنصراً معدنياً كانت تدخل في صناعة رقائق الكمبيوتر في ثمانينيات القرن الماضي، ليصل عددها إلى 60 عنصراً بحلول عام 2006 بفعل التقدّم الصناعي، وتطوّر قدرات التعدين وتكرير المعادن لدى الدول وفي طليعتها الصين.
الصين رائدة الإنتاج العالمي من المعادن النادرة
بحسب الهيئة المشار إليها آنفاً، فقد شكّلت المناجم في الصين عام 2014 ما نسبته 20% أو أكثر من إنتاج المناجم في العالم للمعادن النادرة، بما يزيد عن 85% من "العناصر الأرضية النادرة" (REEs) وهي أحد عناصر المعادن النادرة، ويشار إليها عادة باسم "اللانثانيدات"، و82% من التنغستن، و76% من الأنتيمون، و73% من الجرمانيوم، و68% من الزئبق، و66% من الغرافيت، و59% من الفلورسبار.
انطلاقاً من أهمية هذه المعادن وتشكيلها محرّكاً للنّزاعات الجيوسياسية وصراعات القوى الكبرى، كانت فكرة إعداد دراسة حولها، حيث تمّ نشرها لدى المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق ضمن سلسلة البحث (راجع العدد 59 بعنوان "جيوبوليتيك المعادن النادرة، الإنتاج والاستخدام"). شملت الدراسة 23 من المعادن النادرة، وتطرّقت لإنتاجها وخصائصها واستخداماتها وتوزّع احتياطاتها وأبرز الدول المستوردة. يلخّص المقال الحالي أبرز نتائج الدراسة ويجمعها في جدول واحد، حيث تصدّرت الصين الدول المنتجة لـ 13 من أصل 23 معدناً شملتها الدراسة:
جدول المنتجين الثلاثة الأول، الاستخدامات الرئيسية، الاحتياطات، أبرز المستوردين لـ 23 من المعادن النادرة:
أداة محورية في منافسة القوى الكبرى
في ما يلي بعض الأمثلة على كيفية دخول المعادن النادرة في منافسة القوى الكبرى واستخدامها كورقة قوة من قبل الدول المنتجة لها. في سياق الحصار التكنولوجي الذي تحاول الولايات المتحدة فرضه على الصين، بادرت الأخيرة بدءاً من 1 آب/أغسطس 2023 إلى فرض قيود على تصدير معدنَي الغاليوم والجرمانيوم، اللذين تعتمد الولايات المتحدة على تلبية احتياجاتها منهما عبر الاستيراد بشكل أساسي من الصين. دفع هذا الإجراء واشنطن إلى اتّهام بكين باحتكار شبه كامل للغاليوم، الذي يستخدم في صناعة أشباه الموصلات لإنتاج الرقائق الدقيقة الضرورية لتشغيل بعض التقنيات العسكرية الأكثر تقدماً في الولايات المتحدة.
أرادت بكين من هذا الحظر تكريس معادلة قوامها المواد الأولية الصينية مقابل إجراءات الحظر التكنولوجي الأميركية. الخطوة الصينية دفعت بمختصين أميركيين إلى التحذير من أن نقاط الضعف الصارخة في سلسلة توريد الغاليوم تشكّل تحدّياً خطيراً للأمن القومي والاقتصاد الخاصَين بالولايات المتحدة وحلفائها. وفي إجراء مشابه، عمدت بكين عام 2010 إلى تقييد تصدير "العناصر الأرضية النادرة" (REEs) الضرورية للصناعة في قطاع الطاقة المتجدّدة والصناعات التكنولوجية الحديثة، مما تسبّب بتهافت العديد من الدول لتأمين إمداداتها من مصادر بديلة.
بدورها، صنّفت الولايات المتحدة معدن البيريليوم الذي تتصدّر العالم في إنتاجه كسلعة استراتيجية، حيث تحافظ على مخزونات منه ولا تصرّح عن كميات إنتاجها نظراً لدخوله في صناعات عسكرية حسّاسة. كذلك تشير العديد من المصادر الغربية إلى توجّه الصين نحو فرض حظر على تصدير التكنولوجيا اللازمة لمعالجة المعادن الأرضية النادرة، من خلال إعادة نظرٍ تجريها حالياً وزارة التجارة الصينية لسياسات التصدير. كذلك تتحكّم دول أخرى بإمدادات العديد من المعادن النادرة مثل الكوبالت (الكونغو) والنيوبيوم (البرازيل) والبلاتين (جنوب أفريقيا)، ما يعطيها ميزة التأثير على العرض في الأسواق العالمية.
مع توقّعات بارتفاع الطلب العالمي وهيمنة الصين على جزء مؤثّر من إنتاج المعادن النادرة، ستواصل العديد من الدول السعي إلى تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها لتجنّب التّداعيات السلبيّة لفقدان متطلبات صناعاتها المتطورة. غير أن تحقيق ذلك يتطلّب وقتاً حيث ستستمرّ الأسعار العالمية الخاضعة لمبدأ العرض والطلب بالارتفاع، وسط تبادل للاتهامات بين بكين التي تقاوم محاولات احتوائها تكنولوجياً والغرب الذي سيواصل اتّهامها بالاحتكار وممارسة ما يسمّيه بـ "الإكراه التجاري".
خلاصات واستنتاجات
في ختام عملية بحثية حول قضية المعادن النادرة يمكن الخروج بجملة خلاصات واستنتاجات هذه أبرزها:
- تبقى الصورة عند النظر إلى تنافس القوى الكبرى والصراعات الجيوسياسية منقوصةً إذا لم تأخذ بالحسبان خارطة توزّع المعادن النادرة من حيث احتياطاتها والدول التي تنتجها وحيوية بعضها بالنسبة للصّناعات الحديثة.
- تأمين الإمدادات من هذه المعادن يفسّر العديد من الأزمات والصراعات والاضطرابات التي أشعلتها القوى الاستعمارية، والمثال الأبرز على ذلك القارة الأفريقية التي لا تزال حتى اليوم عرضة لانقلابات تحرّكها وتدفعها أطماع القوى الكبرى.
- تمثّل الصين المنتِجَ العالميَّ الأول لنحو 13/23 من المعادن النادرة، ما يجعلها اللاعب المهيمن في معادن الطاقة النظيفة، ومن شأن ذلك أن يجعل سلاسل التوريد العالمية تتأثّر بالاضطرابات الجيوسياسية.
- رغم كون الصين رائدة عالمياً في إنتاج الكثير من عناصر المعادن النادرة، فإن الأخيرة تستكمل احتياجات قطاعها الصناعي العملاق عن طريق الاستيراد، كما يحصل بالنسبة للعناصر الأرضية النادرة والسيلينيوم والتيلوريوم والقصدير.
- تعتبر إشارة النّسخة الأخيرة من استراتيجية الأمن القومي الأميركي في ثلاثة مواضع إلى مسألة المعادن النادرة، والدعوة إلى تعزيز التنسيق مع الحلفاء بشأنها، وتشجيع الاستثمار وتأمين سلاسل التوريد، دليلاً على أهمية هذه المعادن بالنسبة للقوى الكبرى.
- القيود الصينية على تصدير العديد من المعادن النادرة، قد تدفع الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين إلى زيادة إنتاجها منها، أو البحث عن خطوط إنتاج بديلة لدى الحلفاء أو في أي بلد يصل إليه نفوذها، ما يشكّل محفّزاً للاضطرابات والنّزاعات ولا سيّما في أفريقيا.
- المقارنة بين الدول الرائدة على صعيد الإنتاج وتلك التي تمتلك أكبر احتياطات من المعادن النادرة تدفع إلى الاستنتاج بأن هناك الكثير من الدول النامية التي لا تستثمر مواردها بصورة وافية لأسباب متعدّدة، منها الافتقار إلى إمكانات تكرير وفصل المعادن.
- تفتقر القارة الأوروبية بشكل كبير إلى توفّر الموارد من المعادن النادرة ما يجعلها ترتكز في تأمين احتياجاتها عبر الاستيراد من القارة الأفريقية بشكل رئيسي، مستفيدة من تاريخها الاستعماري والقرب الجغرافي منها.
- تظهر إحصائيات تمّ جمعها بين الأعوام 2020 و2023 اعتماد الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين (كوريا الجنوبية واليابان) على تلبية احتياجاتهم من المعادن النادرة اللازمة لصناعاتهم المتطورة عن طريق الاستيراد. وهذا الواقع يقيّد قدرة الولايات المتحدة على عزل الصين ويرفع كلفة احتوائها وفصلها عن الاقتصاد العالمي.