المعادلة الإسرائيلية: "حتى لا تصبح كجنين"..دمّروا العرين!
استمراراً في سياسة "التأديب الخشن"، أدخلت "إسرائيل" مسمّى أخف ثقلاً على التكتيك العسكري ضد "عرين الأسود" يُضمر في مفهومه تجنب تداعيات مسمّى "عملية عسكرية".
بين أن تقرأ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية "حالة" نضالية مستجدة كخطر وجودي وبين إدراجها في ملف المباحثات، معادلة تحسم ما بين الخيارين: "المسافات المعدومة"، أي صفر مسافة بين فوهة البندقية ورأس الجندي، صفر مسافة بين المقاوم والأرضية الشعبية، كلاهما في العقلية الإسرائيلية اجتياح لفكرة "المقاومة " داخل وعي الجمهور الفلسطيني، في أدناه تحطيم لقوتها الدعائية، وفي أقصاه خراب سيلحق ببنيتها، وفي الحالتين لا يمكن قتل فكرة كهذه.
لتقويض مثل هذه الظواهر، ابتدع الاحتلال عمليات عسكرية، كان آخرها عملية "كاسر الأمواج"؛ التي لم تجلب إلى الضفة إلا الفيضان، بدءاً من العمليات إلى نقاط الاشتعال المتنقلة ومعادلات الاشتباك المثبتة. في المشهد الأكثر قرباً، عملت "إسرائيل" على تنشيط لوائح "أبناء الموت" (لوائح الاغتيالات) على جبهتين متوازيتين بدأت من جنين ثم تنقلت على خط النار "جنين-نابلس".
ولأن ما كانت تخشاه "إسرائيل" تحقق، بل تخطى إطار العدوى النضالية؛ إلى ما هو أخطر في حسابات المؤسسة الأمنية، وجب الانتقال من سياسة "تجفيف بؤر المقاومة" إلى اقتلاعها. بما إن "عرين الأسود" استنسخ تجربة جنين. فبحسب صحيفة "هآرتس"، إن عرين الأسود قد "استلهم نشاطاته من المواجهات في مخيم جنين"، ثم استثمر جغرافية نابلس المحاطة بالمستوطنات ونقاط الاحتكاك، لخلق حزام ناري تطور إلى عمليات تطال رؤوس جنودها. إلى أن تمكن فوق ذلك من خرق الوعي الجمعي على امتداد الخارطة الفلسطينية، وإفراز أرضية شعبية أعطته شرعية تمثيلية للبارود.
و"حتى لا تصبح كجنين، النشاط الليلة (العملية العسكرية) ضد عرين الأسود، هو استمرار ملاحقتهم بهدف إعادة نابلس إلى حالتها السابقة"، كما أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت". لذا، كان لا بد من خنق نابلس أولاً لفرض العقاب الجماعي، ومنع الوصول إلى المناطق المستهدفة ثانياً، ثم استعادة سيناريو الاغتيالات، والأهم من ذلك، قلب المعادلة التي فرضها "عرين الأسود": من حالة الهجوم إلى الدفاع، كما في العملية الأخيرة.
"التأديب الخشن"
لكن السؤال هنا، لماذا لجأت "إسرائيل" إلى سيناريو الاغتيالات التي سبقت العملية العسكرية؟ يجيب المحلل العسكري في صحيفة "إسرائيل اليوم" يوآف ليمور، بأن "الكيلاني كان قنبلة متكتكة". ولأن الشهيد تامر الكيلاني لم يُخلِّف وراءه بصمة إلكترونية يستطيع من خلالها تتبعه واصطياده، كونه كان بعيداً عن استخدام وسائل التواصل الذكية، كما إنه لم يكن يستخدم وسائل النقل في تحركه، ما استدعى سيناريو عمليات الاغتيال بعد تغييب امتد لأكثر من 15 سنة. باعتبار أن العامل الاستخباري الأول بالنسبة إلى "الشاباك" في العملية العسكرية في نابلس، كان باستخدام برنامج التجسس "بيغاسوس"، الذي أوصل معلومات استخبارية قادت إلى مكان وجود عناصر "عرين الأسود"، في نابلس، حسب ما كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت".
لاستعادة الصورة كاملة، يكشف قرار الاغتيال نفسه؛ أن "إسرائيل" بدأت بتفكيك الفهم الهوياتي للعرين، وقراءة سلوكياته، وأن تعمّد الإشارة إلى الشهيد الكيلاني بـ " قائد في العرين" إعلامياً، يدل على انتقال التكتيك إلى تحديد مراكز الثقل البشري في هذه الظاهرة. وعليه، قامت "إسرائيل" بتركيز الجهود وتخصيص القدرات لتحييدها.
أما بالنسبة إلى موقع العملية، فهو الآخر يؤكد أن "إسرائيل" تحاول القول إن يدها ستطال المنطقة "الآمنة"، وأن السيطرة الميدانية تحسب في النهاية لها، وذلك بإرسال رسالة مبطنة أنه ليس بالضرورة أن يكون القرار استثنائياً بما يخص الحالة القائمة في نابلس، بل يمكن استنساخه في أي منطقة في الضفة ضد المقاومين، لتشكيل ردع وهمي لا يتوافق مع الأرضية الساخنة في الضفة.
أما على الصعيد الداخلي، فلم يكن بمقدور المؤسسة الأمنية التزام الصمت، وعدم الرد على عملية "شافي شمرون" التي أعلن "عرين الأسود" تبنّيها، وتَرك ثغرة لن تكون في مصلحة الحكومة الحالية مع ازدياد حدة الانتقادات الداخلية بين التيارات السياسية المتزاحمة قبل الانتخابات، الأمر الذي يؤكده وزير الحرب الإسرائيلي، بيني غانتس، بأن "لا حاجة إلى عملية واسعة في الضفة الغربية"، لذا شكلت عملية الاغتيال اعترافاً بينيّاً يُستدل منه إلى عمق الخطر والتهديدات التي يواجهها في التعامل مع الحالة النضالية المتنامية في الضفة.
استمراراً في سياسة "التأديب الخشن"، أدخلت "إسرائيل" مسمّى أخف ثقلاً على التكتيك العسكري ضد "عرين الأسود" يُضمر في مفهومه تجنب تداعيات مسمّى "عملية عسكرية" ويكون أقرب إلى مصطلح "المداهمة"، تُرجم في سياق العملية الأخيرة في نابلس، بمشاركة وحدات "ميتكال" و"يهلوم" و"8200" و"الشاباك" و"يمام" و"جفعاتي" المسلحة بالقذائف الثقيلة وبنادق القنص، وتدخل صامت من مسيّرات "زيك" و"هيرمس 450" المسلحة، التي لم تُستخدم في أي حال.
توقيت العملية قبل 5 أيام فقط من المعركة الانتخابية الإسرائيلية، كان متوقعاً بهدف تسويقها في دائرة الإنجازات العملياتية كورقة انتخابية تصور القدرة العملياتية والسيطرة الميدانية، طار بعدها لابيد سريعاً إلى الناصرة لرفع نسبة التصويت المنخفضة في المجتمع العربي، بذريعة أن امتناع العرب عن التصويت "يصب في مصلحة معسكر اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو".
باستشهاد القائد في "عرين الأسود" وديع الحوح، بدا الخطاب الإعلامي العبري يراوح في اتجاهين معاكسين، الأول يمجّد العناصر التي تم اغتيالها، ويحرص على توصيفهم بقادة التنظيم الأخطر، ثم يلوّح بإنجاز عسكري أشرفت عليه القيادات العليا في "إسرائيل". مقابل خط آخر معاكس يحاول امتصاص الهالة التي صنعها الإسرائيلي قبل الجمهور الفلسطيني، ويرى أن أرضية الضفة يتم استغلالها من قبل سماسرة السياسة الأمر الذي قد "يتحول إلى ارتداد عكسي للمنظومة الأمنية، ويتطور باتجاه تقليد منظمات مماثلة أيضاً"، بحسب المحلل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرنوت"، رون بن يشاي.
من جهته، علق نير دفوري، المحلل العسكري لـ"القناة 12" العبرية أن الصورة التي انتشرت لغرفة العمليات التي أديرت منها عملية نابلس بحضور رئيس أركان "الجيش"، ورئيس "الشاباك" وقائد العمليات " كل هذا الحدث أمام منظمة صغيرة، أخرج صوراً لا يمكن أن نراها إلا عندما يتم اغتيال محمد الضيف مثلاً".
"القنابل الموقوتة"
بجميع الأحوال، إذا كان خيار "إسرائيل" ممارسة فائض القوة، فلا يعني ذلك أنه سيصل في استهدافه جوهر الحالة النضالية، حتى إن سياسة تحييد "القنابل الموقوتة"، كما يصفها "جيش" الاحتلال في الضفة، قد تطيح بندقية ما في المنظور الأمني الإسرائيلي، لكنها في أرضية الوعي الفلسطيني تطيح في الحقيقة الخوف العام، وتولّد جمعاً من البنادق.
فبحسب المحلل العسكري في صحيفة "معاريف"، تل ليف رام "أن المستوى التكتيكي هو فقط جزء من المشكلة حين تعبّر ظاهرة عرين الأسود عن مسألة فكرة وإلهام يمكن لكل شاب فلسطيني أن يحمل السلاح ويشارك في يقظة وطنية مسلحة".
كل ما سبق يوصلنا إلى حقيقة أن "عرين الأسود" بات يشكل تهديداً بالنسبة إلى "إسرائيل"، كونه استطاع خلق تركيبة فضفاضة غير هرمية بطابع وحدوي يتجاوز الخرائط الفصائلية، وهو النموذج الذي يتوق إليه الشبان. ما يعني تقويضاً أكثر لدور السلطة، وتهديداً أكبر لأمن "إسرائيل"، وهو ما يفسر السرعة الكبيرة التي تنامى فيها العرين بسبب اتساع الأرضية الحاضنة. إذ إن تحوله إلى ظاهرة شعبية جماهيرية جارفة يجعل مواجهته أكثر تعقيداً، ويصبح اجتثاثه مستحيلاً، ما يضع "إسرائيل" في دوامة الإرباك، تجد فيها نفسها أمام سباق مع الزمن.
بالنسبة إلى دانا بن شمعون، المحللة في الشأن الفلسطيني في صحيفة "إسرائيل اليوم" فإن "أولئك الذين لم يفكروا في السابق في الانضمام إلى القتال يرون الآن أنه من الممكن، بل وحتى أسهل مما كانوا يعتقدون".
أما الذي زاد من منسوب التهديد الأمني، فهو قدرة العرين الكبيرة على التطور والتقدم في المبادرة ومباغتة الاحتلال والتضييق على مستوطنيه واستنزاف مجنديه، ما ولّد تخوفاً من مدّ جمعي نضالي قد يغير قواعد اللعبة، خاصةً مع نجاح العرين في إشغال "جيش" الاحتلال، وتنفيذ عمليات إطلاق نار وتبنّيها بكل جرأة كقتل الرقيب أول عيدي باروخ في لواء "جفعاتي"، وإرسال فدائيين إلى الداخل المحتل لتنفيذ عمليات إطلاق نار، كما في محاولة محمد الميناوي الذي اعتقل في يافا قبل تنفيذها.
عملياً، خرج القوس من السهم، كما انبثق العرين من جنين ستلتحق تجسيدات شتّى لمواصلة الفكرة ذاتها، "عرين الأسود هو في الواقع فكرة، أكثر من مجرد هيكل تنظيمي، وبالتالي من الصعب إيقاف انتشاره" يقول المحلل العسكري في "هآرتس"، عاموس هرئيل.