الكيان وحده...كأن كل شيء لم يبدأ بعد
المتغيرات في العلاقة الغربية –الإسرائيلية قد أسس لها هنري كسينجر مفهوماً مختلفاً، حيث حوّل الكيان من حليف إلى جزء من منظومة المصالح الأميركية – أي جزء من أمنها القومي.
نتنياهو منذ بداية الطوفان وفي أي فرصة يردد أنّ هذه الحرب "وجودية"! قلما توقفنا عند هذا التوصيف من قبل رئيس حكومة الكيان، ربما ظناً منّا أنّه يستجدي دعماً أو يتسوّل مساعدات أكبر، الحقيقة، أن نتنياهو يعني ما يقول، ذلك، إذا ما راجعنا الأدبيات للآباء المؤسسين لهذا الكيان، أهمهم دايفيد بن غوريون أوّل رئيس حكومة لما تسمى "إسرائيل"، المؤسسون ولا سيما بينغوريون، وضعوا ما يشبه التوصيات – هي أشبه بلاءات أو محددات يجب على إدارة الكيان عدم الوقوع فيها أو تخطيها؛ ذلك انطلاقاً من فهمهم نقاط القوّة والضعف الكامنين في كيانهم الإحلالي. قد تغيرت أشياء مع الزمن، نعم، لكن منطلقات الماهية ظلت نفسها...
ما الذي تغيّر؟
سنحدد المتغيرات بإيجاز؛ بنقاط لها علاقة بتمرحل الدعم الغربي وتطوره لما تسمى "إسرائيل"، ذلك الذي لا يفارق ألسنة مسؤولي الكيان المحتل حالياً – في هذه المعركة على وجه التحديد.
هنا، لنتوقف قليلاً، الحديث عن المتغيرات الخارجية، ليس بالضرورة أن يكون ذا أولوية عن المتغيرات الداخليّة، لأن الداخل بعد مرور أكثر من خمسة وسبعين عاماً، طرأ عليه الكثير من المتغيرات التعقيدية، ربما لا يفيدنا حالياً شرحه، لأن مقالاً واحداً سيظلمه ولن يفيد فكرة مقالنا إلا تلميحاً وليس تفنيداً، لكن ذلك غاية في الأهمية البنيويّة، وبحاجة إلى دقة في المعلومات وربط التمرحل وتشبيك أسباب التفكك الاجتماعي المربوط حكماً بالمصلحي، إذاً نحن أمام مروحة من العوامل الحيوية التي لا أستطيع شرحها كاملة، ولا سيما أن أيَّ انتقاص استقرائي قد لا يصل بنا إلى خلاصات حقيقيّة علمية منطقية ثابتة؛ التي لا أبالغ إن قلت إنها مروّعة لكيان إحلالي استيطاني كهذا، ركيزة وجوده، سيكولوجية، اجتماعية، اقتصادية، ديموغرافية... إلخ من تركيبة أي مجتمع متعدد الإثنيات والأعراق والتناقضات الجوهرية؛ لكن كل هذا يتمحور حول المُستوطن بكل أشكال البحث، الطريق يؤدي إليه فقط إليه؛ لكن...
أيضاً من دون الإطالة، المُتغيرات السياسيّة والعلاقة مع الغرب مهمة، إلى حدّ يُجيب عن أسئلة تراود الكثير من المتابعين، مضمونها "نفهم أن الولايات المتحدة الأميركية داعمة بالمطلق للكيان الإسرائيلي؛ لكن لماذا؟" هذه الـ لماذا؟ تفيد ككلمة مفتاحية للولوج إلى الأسباب – هي كثيرة، منها الثانوي ومنها الجوهري، سنركز على الجوهري.
معلوم أن أميركا ليس لديها حلفاء "بل مصالح" – هذا ما يصرح به الأميركي دوماً وأدبية سياسية ملازمة لشخصيته. أميركا البراغماتية الميكيافيلية المتطورة، ربما، معناها المصلحة لها بداية ونهاية وليست شريكة استراتيجية، بل هي بازار مصلحي مفتوح، لكن "إسرائيل" ليست كذلك، سأضرب مثلًا صغيراً دالاً على الفكرة، طائرة أف 35، موجودة لدى دول عديدة منها، كوريا الجنوبية واليابان ولكن لا تستطيع أي من الدولتين استخدامها كما يحلو لها لأنها بحاجة إلى شيفرة تشغيل تتغيّر يومياً والمصدر المُشغّل أميركا، الخلاصة أن من يمتلك هذه الطائرة، هو مستأجر وليس مالكاً! إلّا "إسرائيل" ليست بحاجة لا إلى شيفرات ولا غيره لتشغيلها، لماذا كل هذا التمييز إذاً؟
لأن المتغيرات في العلاقة الغربية –الإسرائيلية قد أسس لها هنري كسينجر مفهوماً مختلفاً، حيث حوّل الكيان من حليف إلى جزء من منظومة المصالح الأميركية – أي جزء من أمنها القومي-الأسباب كثيرة، لكن هذا ما نحن عليه اليوم، لذا يعدّ هذا أهم تغيُّر انسحب على باقي الدول الكولونيالية بعد فترات، وأسسّ لعلاقة مختلفة بين الغرب والكيان المحتل.
لماذا نتنياهو محق!
بالعودة إلى الأدبيات الصهيونية، كان هناك وما زال نقاش دائم عن «هاجس النهاية» لكننا سنركز على دايفيد بن غوريون، الأخير كان شديد الحرص، على نقاط، وجد حسب ما قال، أنّه ما إن بدأت هذه الاحتمالات بالحدوث، حتى" يبدأ العد التنازلي لنهاية إسرائيل".
أولاً: أن تكون الحروب خاطفة وسريعة؛ إن أي حرب طويلة تضر الكيان بنيوياً، هذا لم يحدث الآن فنحن على أعتاب سنة من حرب تعدّ الأشرس والأخطر في تاريخ " إسرائيل" منذ النشأة.
ثانياً: أن تكون مسرح الحروب أراضي الغير وليس أراضي الكيان المحتلة، هذا أيضاً لم يحدث، "الجيش" الإسرائيلي لا يعرف من أين تأتيه الضربات، ولا يدرك حتى اللحظة تطورها، ومن أين وكيف.
ثالثاً: الهجرة المضادة، أي هجرة المستوطنين من الكيان بدل إليه، هذا أيضاً لا يحدث الآن، لأن الأرقام المتوفرة، تتحدث عن هجرة مليوني مستوطن، ذلك رغم التقييد على المغادرة والتكتم على الأرقام.
كل هذا يؤرّق أي رئيس حكومة للكيان، لأنه يدرك تماماً تداعياته وأخطاره على المستويين القريب والبعيد.
نتنياهو تحسس هذه الأخطار، التي لا تتماهى مع ما فعله كسينجر بشكل كلّي، ولا سيما أنّ التوازنات اختلفت كما الأولويات، فأميركا أدّت قسطها للعلا، لحماية " إسرائيل" من دون بخل بأدق التفاصيل، أقل ما يمكن قوله، إنها جعلتها أميركا مصغرّة في المنطقة، لكن ليس كل شيء تستطيع أميركا فعله، وما دور الكيان ومؤسساته الأمنية والاستخبارية و"جيشه" وإداراته... إلخ؟
لنأتي أخيراً وليس آخراً في هذا الصراع، على الذي حصل مؤخراً، حيث اغتال العدو القائد الكبير في المُقاومة في لبنان السيد فؤاد شكر ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية.
الجميع تحدّث عن أنّ الاغتيالات كانت من نتائج اجتماعات نتنياهو في واشطن، تخمين هو ذلك وليس معلومة ثابتة، لكن الأرجح، في التسريبات ذاك الخيار كان السلم الذي ينزل نتنياهو عن الشجرة، ويُقدّمه كمنتصر، بوجود تسويق أميركي سياسي وإعلامي لهذا النصر المزعوم، بالرؤية الأميركية لا جدال عن مصلحة الكيان، لكن العقل الصهيوني المحتل لفلسطين وأراضينا تختلف مقارباته عن الأميركي، بعد الاغتيالات انتشى نتنياهو، وقرر التفاوض بشروطه، حركة بلهاء، لا بد أن الأميركي يقول فيها "لقد أعطيناك سلماً لتنزل عن الشجرة، لكننا لم نقل لك انزل وتدهور في الهاوية".
المحور يعنيه الرد الحتمي المؤلم، لكن ما يعنيه وبشكل ملح، استنزاف الكيان، الذي لا يستطيع التنفس من دون الأوكسيجين الغربي، ولا يستطيع المجابهة منفرداً، ولا سيما إذا وضعنا ما ذكر أعلاه كمحددات لوجوده، المقاومة ومحورها يركزون على هذه النقطة، وليس مكرمة أن أميركا لا تريد حرباً شاملةً، لأنه مأزق تحاول الهروب منه بأي شكل، لأولويات مختلفة وأكثر إلحاحاً، الإسرائيلي معه كل الدعم التسليحي والسياسي الغربي في ميدان الجبهات المتعددة، ومع ذلك، وحده، سيواجه أياماً سوداء وكأنّ كل شيء لم يبدأ بعد.