القوة الناعمة فكرة إمبريالية بأيدٍ فلسطينية
القطعة الجغرافية المتمثلة بمساحة قطاع غزة، أصبحت اليوم ترسم السياسات الخارجية للدول الكبرى وحتى تغير المجريات المحتملة للسياسات الداخلية، إذ إن المشهد العالمي قبل السابع من أكتوبر مختلف وسيستمر بالاختلاف عما بعده.
كثيراً ما يتم استحضار القوة الناعمة في المناقشات الدائرة حول قيمة الصادرات التعليمية والثقافية، ولكن من المثير للاهتمام أن هذا المصطلح المحدد تمت صياغته مؤخراً في ثمانينيات القرن العشرين، حيث يصف جوزيف ناي، عالم السياسة الأميركي الذي أشاع هذا المفهوم، القوة الناعمة بأنها "القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الجذب بدلاً من الإكراه أو الدفع-المغناطيس بدلاً من الجزرة أو العصي". ويضيف ناي أن التعليم العالي غالباً ما يكون له مثل هذه التأثيرات المغناطيسية.
وقال لمجلة "تايمز" للتعليم العالي: "إذا كانت إحدى الجامعات تعامل طلابها بشكل سيئ، فمن غير المرجح أن يكون هناك انجذاب دائم".
ويعتقد ناي أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة تواصلان "التفوق على ثقلهما" من الناحية الجيوسياسية، ويرجع ذلك جزئياً إلى الاستقبال الإيجابي الذي تلقاهما إلى حد كبير من الدبلوماسيين الأجانب والسياسيين والصناعيين الذين كانوا طلاباً أجانب هناك.
وفي حالة الولايات المتحدة، تم إنشاء برنامج فولبرايت في عام 1946 خصيصاً لتعزيز الأفكار الغربية في بداية الحرب الباردة، وفقاً لجوليو جالاروتي، أستاذ الحكومة في جامعة ويسليان ويقول: "كان برنامج فولبرايت محاولة لكسب المعركة الأيديولوجية ضد الشيوعية، وبالتالي كانت الفكرة هي جلب الناس إلى أميركا من جميع أنحاء العالم".
وفي سابقة هي الأولى من نوعها على مستوى العالم، اكتشف الباحثون أن القوة الناعمة التي تتمتع بها الدولة لها تأثير كبير إحصائياً في الاستثمار الأجنبي المباشر، وتوظيف الطلاب في الخارج، والسياحة، والنفوذ الدولي في محافل مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك وفق بحث أعدّه معهد العلاقات الثقافية الدولية بجامعة إدنبرة في 2016 لصالح المجلس الثقافي البريطاني، وقام الخبراء بتقييم مدى تأثير الأشكال المختلفة للقوة الناعمة بما في ذلك المؤسسات الثقافية، والديمقراطية والمساعدات الأجنبية، والتصنيف الثقافي العام في الجذب الدولي لأي بلد.
وتبيّن أن المؤسسات الثقافية مثل المجلس الثقافي البريطاني ومعهد "غوته"، مؤثرة في جذب الطلاب الدوليين والسياح الدوليين والاستثمار الأجنبي المباشر، إذ كلما زاد عدد الدول التي تستضيف معهداً ثقافياً، كان العائد أفضل للدولة الأم، ويشير التقرير ذاته إلى أن الترتيب الثقافي للدولة في العالم مهم أيضاً للتأثير السياسي في العالم.
وفي الآونة الأخيرة، دخلت الصين، المنافس الاستراتيجي الرئيسي للغرب، في هذا العمل، وذلك من خلال مبادرة "الحزام والطريق" على سبيل المثال، فقد سعت الصين إلى تعزيز التبادلات والتعاون الدوليين، وقد أدى ذلك إلى تعزيز قدرة الصين على جذب الطلاب الدوليين، خاصة من العالم النامي، للدراسة في أفضل جامعاتها، وفقاً لهونغ يي لاي، الأستاذ المشارك في السياسة والعلاقات الدولية بجامعة نوتنغهام، ويمثل عدد الطلاب الوافدين إلى الصين البالغ عددهم 500 ألف في عام 2020 زيادة خمسة أضعاف منذ عام 2004.
وبهذا، فإن الأدلة متزايدة على أهمية القوة الناعمة بالنسبة إلى الدول الكبرى، إذ إن أي دولة مهتمة برفاهها الاقتصادي أو نفوذها الدبلوماسي الدولي ينبغي لها أن تضمن أن القوة الناعمة تأخذ مكانها الصحيح في قلب عملية صنع السياسات لديها، وخصوصاً القوة الناعمة المتعلقة بالجانب الثقافي ونخص منه الجانب التعليمي، إذ يعدّ رواد المؤسسات التعليمية في تلك الدول عند عودتهم إلى أوطانهم سفراء للدولة المستضيفة، وناشرين لثقافتها وأفكارها بشكل مباشر تارة، وغير مباشر تارة أخرى.
الجامعات الأميركية قلب قوتها الناعمة
تعدّ الجامعات الأميركية إحدى أبرز أدوات القوة الناعمة التي تستخدمها الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها على الساحة العالمية، تمتلك هذه الجامعات سمعة أكاديمية متميزة وبرامج تعليمية وبحثية متقدمة، ما يجعلها وجهة مفضلة للطلاب والباحثين من جميع أنحاء العالم.
أولاً، تلعب الجامعات الأميركية دوراً حيوياً في نشر القيم والثقافة الأميركية من خلال التعليم والتبادل الأكاديمي.
ثانياً، تسهم الجامعات الأميركية في بناء شبكات علاقات قوية بين الولايات المتحدة والدول الأخرى عبر الخريجين الذين يشغلون مناصب قيادية في بلدانهم بعد تخرجهم. هؤلاء الخريجون يصبحون سفراء غير رسميين للولايات المتحدة، حيث ينقلون تجاربهم وخبراتهم الإيجابية عن الحياة والدراسة في أميركا إلى مجتمعاتهم، ما يعزز من صورة الولايات المتحدة كدولة رائدة في مجالات العلم والتعليم.
ثالثاً، من خلال الأبحاث المشتركة والمشاريع العلمية، تعزز الجامعات الأميركية التعاون الدولي وتبادل المعرفة، هذا التعاون العلمي يرسخ مكانة الولايات المتحدة كقائدة في الابتكار والتطوير التكنولوجي.
باختصار، تستخدم الولايات المتحدة جامعاتها كأداة فعّالة لنشر قوتها الناعمة، من خلال توفير تعليم متميز وبناء علاقات دولية قوية، ما يساهم في تعزيز نفوذها العالمي وصورتها الإيجابية.
القوة الناعمة الفلسطينية
صحيح أن مفهوم القوة الناعمة تجسد وظهر من حيث التعريف والتطبيق لدى قوى العالم المتقدم، ونخص هنا الولايات المتحدة الأميركية، وأخذ مسارات الثقافة والفن، ولكن مع مرور الوقت، فإننا نعتقد أن هذا المفهوم تطور ليأخذ منحى مختلفاً، فلم تعد القوة الناعمة حكراً على تلك القوى وإنما أصبح لبلدان غير متطورة أو حتى محتلة قوة ناعمة أيضاً، ولم تعد الثقافة وحدها تمثل أدوات تلك القوة وإنما أيضاً القضايا الإنسانية كذلك.
ومما سبق، فإن لفلسطين اليوم وحتى في ما سبق قوة ناعمة، تتجلى من خلال عدد من الأحداث على مستوى العالم، كحملات المقاطعة العالمية للمنتجات الصهيونية وخصوصاً المنتجات التي تنتج في المستوطنات، ذلك الذي أحدث أثراً كبيراً في الاقتصاد الإسرائيلي ما جعلهم يخبئون مصدر تلك المنتجات لمحاولة معالجة هذا الضرر.
واليوم، امتدت هذه القوة الناعمة بعد الحرب على غزة خصوصاً، إذ طالت حملات المقاطعة "كما تابع الجميع" أولئك الذين يدعمون الاحتلال، حتى وإن كانوا من دول أخرى، وأحدثت حالة المقاطعة هذه انهيارات اقتصادية لدى مؤسسات عريقة، صحيح أنها لم تصل إلى الإفلاس أو الخسارة الكبرى ولكنها خسارات غير متوقعة حتى في السيناريوهات الأسوأ حدوثاً وفق تحليلهم لمستقبل الأزمة.
ووصلت القوة الناعمة الفلسطينية إلى معقل الرأسمالية العالمية والليبرالية الحديثة، وهي الولايات المتحدة، وبالتحديد جامعاتها التي- كما أسلفنا- هي سيف القوة الناعمة الأميركية، إذ إن حملة الاحتجاجات والعصيان المناصر لأهلنا في قطاع غزة، لم تكن آثارها مقتصرة على مفاعيل القوة الناعمة وإنما أيضاً على تشويه تلك القوة في الولايات المتحدة، كما ضربت جملة القيم التي اخترقت بها أميركا العالم والمتمثلة بالحرية والعدالة، وبالتالي فإن الصورة الجميلة تلاشت لدى الشعب الأميركي وكذلك شعوب العالم الآخر.
وعلاوة على ذلك، وإلى درجة غير مسبوقة، فإن التطورات في قطاع غزة لها تأثير كبير محتمل في السياسة الداخلية للولايات المتحدة، واحتمالات إعادة انتخاب الرئيس جو بايدن، وبالتالي مسار الديمقراطية الأميركية خلال الإدارة المقبلة حيث تهدد المجتمعات الأميركية المسلمة الغاضبة بعدم الإدلاء بأصواتها.
ختاماً، فإن هذه القطعة الجغرافية المتمثلة بمساحة قطاع غزة، أصبحت اليوم ترسم السياسات الخارجية للدول الكبرى وحتى تغير المجريات المحتملة للسياسات الداخلية، إذ إن المشهد العالمي قبل السابع من أكتوبر مختلف وسيستمر بالاختلاف عما بعده.