العَلَم الفلسطيني.. السلاح الأمضى في الصراع
يشكّل انتماء كانتماء شعب فلسطين إلى قضيته ورموزها خطراً كبيراً على مشروع احتلالها المستهدِف تصفية هذا الانتماء وضرب الشعور الوطني الكبير المحيط به والملتزم بأدبياته وأدواته وتعزيزه.
يرى مواطن بلدٍ ما نفسه في ألوان علمه ورموزه، يعبّر به عن انتمائه، ويقدّمه رمزاً لهويته الوطنية، ويتمترس خلفه عندما يشتد خطب ما قد يهدّد وجوده على المستوى الشخصي أو وجود مجتمعه، ثم يصحبه هذا العلم الرمز في كل مناسبة تعيشها البلاد ويتفاعل معها فرِحاً كان أو حزيناً؛ فيرفعه مرفرفاً به بتلقائية الشعور الجيّاش بالانتماء والاعتزاز، وينكّسه عند حزنه وألمه، خصوصاً في مستواه الجماعي.
علَم فلسطين.. خصوصية الرمز وتكوّن الانتماء
العلَم الفلسطيني الذي بدأ ظهوره ثورياً خافقاً يخاطب الأحرار، ويمثّل الثورة العربية على أرض فلسطين في العام 1916م، بألوانه الأخضر والأبيض والأسود، مع مثلث الفداء بالدم الأحمر، اكتسب زخمه العارم سريعاً عندما توالى ترسيخ حضوره وتبنيه والإصرار على تصدير معانيه إلى المشهد الثوري الفلسطيني الوطني والوحدوي العربي عند العمل والالتزام بمجابهة الاستعمار البريطاني والهجرة اليهودية والتصدي لحركة الاستيطان المستهدِفة لأرض فلسطين العربية. حتى تبنّاه بشكل أرّخ رسمياً لصفة هذا العلم الوطني فلسطينياً الاجتماع الأول للمجلس الوطني الفلسطيني، في الثامن والعشرين من أيار/مايو 1964م، حين وقّع المجلس الميثاق القومي الخاص به، ونصَّ في المادة الـسابعة والعشرين منه على أن يكون لفلسطين علمٌ وقسَمٌ ونشيد، وحدّدت ألوانه بترتيبها الذي تمت المحافظة عليه: أخضر فأبيض ثم أسود، مع مثلث أحمر، بعد نحو ستة أشهر، وبالتحديد في كانون الأول /ديسمبر، وضعت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مقاييس العلم، وحلّ اللونان الأسود والأخضر كل منهما محل الآخر، ومع انطلاق الثورة الفلسطينية في بداية عام 1965م، غدا هذا العلم الرمز شعاراً أممياً لها.
أكدت مخرجات عدة مؤتمرات الالتزام بالعلم الفلسطيني، واستحضاره ضمن العمل المتصدر للمشروع الوطني الفلسطيني المجابه لمشروع احتلال أرض فلسطين، ثم توالت عدة قوانين رسمية تم التشديد من خلالها على حرمة العلم الفلسطيني كرمز للشعب الفلسطيني وتعبير ثابت عن هويته وانتمائه، حتى تم حظر رفع أي شارة أو راية أو علم آخر فوق مستوى العلم الفلسطيني في المكان نفسه، تأكيداً على حرمته والتزاماً بخصوصية مكانته.
هكذا ترسَّخ علم فلسطين هويةً في وجدان شعبها ومخيلته ليصل بكل فلسطيني إلى حمله كجزء لا يتجزأ منه في حلِّه وترحاله، يصطحبه في سفره بين متعلقاته الشخصية بشكل يلفت كل من يراه في العالم، ويحدث العالم عنه بكل شغف يثير كل مستمع ويفتح به باباً للنضال عندما تسنح أصغر مساحة بفرصة، يرسمه الفلسطيني على أي ورقة تمثل أمامه حتى ولو سهواً؛ فخياله متشبث بالانتماء، وتخيطه الأمهات على ثياب التراث وقلادات الأطفال و"علّاقات" مفاتيح البيوت، لأن فلسطين – ببساطة - يجب أن تبقى حاضرة في التفاصيل.
العلم الفلسطيني.. أرقُ الاحتلال المستمر
يشكّل انتماء كانتماء شعب فلسطين إلى قضيته ورموزها خطراً كبيراً على مشروع احتلالها المستهدِف تصفية هذا الانتماء وضرب الشعور الوطني الكبير المحيط به والملتزم بأدبياته وأدواته وتعزيزه.
في فلسطين، وفي كل ساحات المواجهة والاشتباك والتصدي للاحتلال، لطالما جسّد علم فلسطين وحدة الشعب، ووحدة مصيره وهدفه السامي، وبدأ وترسَّخ رمزاً لتحدي الاحتلال والصمود في وجه تغوّله، ولفرض السيادة الوطنية -حتى لو كانت معنويةً مؤقتةً تحت الرصاص والنار-، فهذا تماماً ما يغيظ المحتل ومؤسساته السياسية والأمنية التي شغلها الشاغل هو تثبيت الوجود الصهيوني وتوسيعه على أرض فلسطين باستخدام مختلف ديناميكيات تحقيق هذا الهدف -والتي من ضمنها تغييب العلم الفلسطيني عن المشهد وصولاً إلى إخفائه وتحييده-، فمثَّل علم فلسطين سلاحاً لا يقل عن الحجر والبندقية والقنبلة والصاروخ، عندما مثَّل حضوره حضوراً للنضال الفلسطيني المتجدد والمُصِرّ على الاستمرارية.
لم يغفل العدو الصهيوني عن أهمية تكريس عمله على استهداف العلم الفلسطيني ومحاولات طمسه كرمز لفلسطين ولإرادة شعبها في التحرر، لأن هذا يعني بالنسبة إلى العدو -إذا نجح-طمس الفلسطيني نفسه وضربه في هويته وانتمائه واعتزازه، وتكريس الاحتلال وإفشال مشروع التحرر والمقاومة والانعتاق من الاحتلال، فكانت القرارات المتتالية لحكومات العدو ومؤسساته الأمنية باستهداف العلم الفلسطيني تحديداً ومحاولة حظر وجوده -ناهيك بتصدره للمشهد-وملاحقة ظهوره على كل المستويات.
عندما نجح العدو الصهيوني في السيطرة على كل الأرض الفلسطينية عام 1967م ومعها أجزاء من بلدان الدول العربية المحيطة بفلسطين، عمل بقوة ووضوح على تسريع مواجهة أي تعبير عن الانتماء إلى فلسطين واستحضارها في وجه سيطرته الاستعمارية الاستيطانية، فمنع رفع علم فلسطين بأي شكل من الأشكال في مناطق سيطرته على كل الأرض المحتلة، بل وأعلن أنه يعد حيازة العلم الفلسطيني عملاً "عدائياً غير قانوني" سيتم التعامل معه بشكل عقابي حازم، كما تم إقرار قانون يمنع إنتاج أعمال فنية أو أدبية تتضمن ألوان علم فلسطين الأربعة.
مؤخراً؛ أمر وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، الشرطة الإسرائيلية بمنع رفع العلم الفلسطيني والتلويح به في الداخل الفلسطيني. وقد حاول بن غفير تبرير أوامره هذه بقوله إن قراره هذا يأتي لمنع ما سمّاه "التماهي مع منظمة إرهابية". يعكس هذا القرار، الذي خلق حالة عارمة من الرفض العالمي له ومن التصدي الفلسطيني العاجل والشجاع، حالة الخشية الكبيرة من تصاعد العمل الوطني ورمزية علم فلسطين في تشكيله رافعةً لهذا العمل وحافزاً للروح الفلسطينية المقاومة التي ترى في علَمها رمزاً لإحياء الفعل الفلسطيني النضالي وتنشيطه.
يبدو واضحاً أن بن غفير يركز على فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948م إذ أصدر قراراً بمنعهم من رفع العلم الفلسطيني جزافاً، بل إنه إضافةً إلى جهوده الحثيثة والمتسارعة في محاولته لشد العصب الصهيوني المتطرف ولجمع المتشددين اليهود حوله وحول خطابه العالي في حكومة نتنياهو، فإنه يهدف للنجاح بتحقيق تشتيت ما في الساحة الفلسطينية وفي الهبّة النضالية المقاومة الأخيرة على كل الأرض الفلسطينية المحتلة، يحاول الوزير الصهيوني وحكومته وأجهزتها أن يحققوا إنجازاً يقطع الطريق على دعوات المقاومة الفلسطينية وبرنامجها الذي يدعو إلى وحدة الساحات المقاومة -خصوصاً على أرض فلسطين- وضرورة دخول الأرض الفلسطينية المحتلة عام 48 بقوة على خط المقاومة ونقل معركة كاملة المعالم إلى هناك، فيبدو مطلباً منطقياً وضرورياً أن تحاول حكومة الاحتلال فصل الفلسطينيين الذين يريدون وحدةً لساحاتهم النضالية، وتتعامل مع كل ساحة فلسطينية بإجراءات خاصة.
علمنا يرفرف رغماً عن كل محاولات الحظر الفاشي
تعسّفَ بن غفير في قراره وساهم في خلق حالة جدل عالمي حوله، لكن الفلسطينيين تلقفوها فرصة كبيرة ليخبروا العالم عن فلسطين وليرفعوا علم بلادهم في كل مناطق وجودهم؛ ليرتفع العلم الفلسطيني في الداخل المحتل وليعلو في ساحات القدس والمسجد الأقصى الهتاف ضد حكومة الاحتلال وبن غفير نفسه مع رفرفة أعلام فلسطين، كما خلقت هذه الأحداث موجة تضامن عالمي مع فلسطين وتأكيد على حق شعبها في رفع علمه والتعبير عن إرادته الوطنية لنيل الحرية، لنرى حملات من رفع العلم الفلسطيني في شوارع المدن العالمية ومن على شرفات منازل الكثيرين حول العالم.
أطلقت في هذا الصدد شبكة الميادين حملة إعلامية للتضامن مع الشعب الفلسطيني وعلمه، والتأكيد على أن علم فلسطين رمز عربي وعالمي إنساني للنضال والوقوف بثبات في معركة التحرر ومقارعة الظلم والاحتلال والوحشية، فكانت الحملة الإلكترونية التي وصلت لتصدر الوسوم عدة أيام والتي حملت عناوين "علمي هويتي"، و"ارفع علمك".
كيف لا يرفرف علم فلسطين ويحضر عالياً وهو الذي يكون حيث يكون الفلسطيني، وقد يحصل -غالباً- أن تفتح حقيبة مسافر فلسطيني في مطار ما فتجد علماً لفلسطين وكوفية في أول ما يمكن أن تشاهده عيناك ضمن ما يحمله من متعلقات شخصية.