العلاقة الألمانية "المعقدة" بالصين: شراكة ومنافسة وخصومة منهجية!
في البُعد الدّولي، تنظر ألمانيا إلى الصين كجهة فاعلة وذات أهمية جيوسياسية تؤثّر في المصالح الأمنية لأوروبا.
في مرحلة برزخية تخلخلت فيها دعائم النظام العالمي، القائم على الأحادية الأميركية، بينما لم يُحسَم بعدُ شكل النظام الجديد، تُخضِعُ الدول الأوروبية مسار علاقاتها بالصين لإعادة تقويم. من هذه الدول ألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأول في الاتحاد الأوروبي، بحيث كثّفت تواصلها مؤخراً على المستوى الحكومي مع بكين بهدف بلورة مقاربة جديدة للعلاقات الثنائية، ونشرت في الثالث عشر من شهر تموز/يوليو الجاري "استراتيجية الحكومة الفيدرالية الألمانية بشأن الصين".
تُبدي برلين في استراتيجيتها إعجابها بسياسة الانفتاح والإصلاح والتعاون الدولي التي اتّبعتها بكين، محققة نجاحاً على مستوى النمو الاقتصادي والازدهار ومكافحة الفقر، لكنّها، في الوقت نفسه، تتدخّل - على الطريقة الغربية – في قضايا داخلية صينية، وتتحدّث عن "انتكاسات على صعيد الحقوق المدنيّة والسّياسيّة"، ذلك بأن السّلطات الصّينية تفرض وفق الوثيقة رقابة على الآراء غير المرحَّب بها من قبلها، وتقمع النقّاد وتقيّد التّغطية الإعلامية والوصول إلى الإنترنت وتحجب مواقع أجنبية وترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان في شينجيانغ والتيبت وهونغ كونغو ومناطق أخرى. ولا تعفي المآخذ الألمانية الجانب الاقتصادي، فتَعُدّ أن الاستراتيجية الاقتصادية للصّين تهدف إلى جعلها أقل اعتماداً على البلدان الأخرى في مقابل سعيها لجعل سلاسل الإنتاج الدولية أكثر اعتماداً عليها. وإزاء تطوّر الصين، ترى برلين أنه لا بد لها من تغيير نهجها ووضع معايير جديدة لهذه العلاقة على نحو يحقق مصالحها، من دون الإضرار بمسؤولياتها على مستوى العالم.
للاستراتيجية المعلنة ثلاثة مستويات ثنائية وأوروبية ودولية، وجملة أهداف، أبرزها تحديد رؤية لـ"العلاقة المعقدة ببكين"، وتقديم وسائل وأدوات تساعد الحكومة الألمانية على تحقيق مصالحها بصورة أكثر فعالية وتماسكاً وتنسيقاً مع الشركاء الأوروبيين والدوليين.
العلاقات الألمانية الصينية على المستوى الثنائي
تؤكد الاستراتيجية سعي الحكومة الفيدرالية للتعاون مع الصين، انطلاقاً من أنها جهة فاعلة وأساسية في حلّ التحدّيات العالمية الرئيسة. كما تشجّع الوثيقة الصين على الارتقاء إلى مستوى مسؤوليتها العالمية، ذلك بأن لقراراتها المتعلّقة بالسياسة المناخية والبيئية، على سبيل المثال، تأثيراً في العالم بأسره. وهي، إذ تشدّد على أن الحكومة الاتحادية ستستفيد من الفرص التي يتيحها التعاون مع بكين، فإنها تلتزم أن يصبح هذا التعاون أكثر عدلاً واستدامةً وتبادليةً. وفي إشارة إلى البعد التنافسي، تؤكد برلين أن مقاربتها الجديدة للعلاقات لا تسعى لإعاقة تقدّم الصين، بحيث إن الجميع يستفيد من المنافسة عندما تستند إلى قواعد عادلة، مع تأكيد الحاجة الملحّة إلى التخلّص من المخاطر (de-risking) الناتجة منها، من دون السعي للفصل الاقتصادي (decoupling) عن الصين. وتشدّد برلين، في الوثيقة، على أهمية التعاون مع بكين وتبادل الاستثمارات ودعم المشاركة الألمانية على صعيد الابتكارات في الصين، مع الاحترام الكامل لحقوق الملكية الفكرية وتطوير العلاقات في مجال العلوم والأبحاث، على رغم القيود التي تفرضها سياسة الاندماج العسكري - المدني الصيني على التعاون الثنائي.
أوروبياً، تشير الاستراتيجية إلى طموح برلين إلى مواءمة سياستها وتنسيقها تجاه الصّين مع الاتّحاد الأوروبي والعمل على تقوية السّوق الداخلية للاتحاد وتنويع سلاسل التوريد، على نحو يضمن القدرة على المنافسة والسيادة التكنولوجيتين والابتكار، مع المحافظة على انفتاح النظام الأوروبي. وتؤكد برلين أن نجاح هذه المواءمة يتطلّب من أوروبا أن تمارس نفوذها ككتلة واحدة في تعاملها مع الصين، والعمل بصورة منسّقة، وجعل عملية صنع القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد أكثر كفاءة وديمقراطية. وتدعم الوثيقة مواصلة تطوير السياسة التجارية للاتحاد الأوروبي وقوننة المنافسة على نحو يعالج الاختلالات القائمة في المبادلات مع الصين، ويعزّز تكافؤ الفرص بين الشركات الصينية والأوروبية. وتدعو إلى اتّخاذ المفوضية الأوروبية تدابير لمعالجة المخاطر الأمنية ومكافحة التجسس الأكاديمي والسايبيري وحماية البنى التّحتيّة الحسّاسة. وتؤمن الاستراتيجية الألمانية بضرورة إجراء حوار أوروبي متعدّد المستويات مع الصين، يشمل المجالات الاستراتيجية والمالية والأمنية والبيئية وحقوق الإنسان وسيادة القانون ومستقبل العلاقات الثنائية، كما تدعو برلين إلى تعاون أوروبي مع الصين لإنجاح المفاوضات بشأن اتّفاقية الأمم المتحدة الإطارية المتعلقة بتغيّر المناخ.
في البُعد الدّولي، تنظر ألمانيا إلى الصين كجهة فاعلة وذات أهمية جيوسياسية تؤثّر في المصالح الأمنية لأوروبا. وفي السياق نفسه، تشير الاستراتيجية الألمانية إلى وجود منافسة واختلاف مع الصّين على مستوى النظرة إلى المبادئ التي تحكم النظام العالمي، بحيث تسعى الأخيرة للتأثير فيه من خلال نظامها القائم على الحزب الواحد، وتعميق علاقاتها بروسيا، وسعيها للهيمنة الإقليمية في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ، بالإضافة إلى استغلال قوّتها الاقتصادية في خدمة أهدافها السياسية. ولتحقيق ذلك، تسعى بكين، بحسب الاستراتيجية الألمانية، لوضع إطار لعلاقاتها السياسية والجيو اقتصادية، ترجمته بصورة أساسية عبر مبادرة الحزام والطريق ومبادرة التنمية العالمية ومبادرة الأمن العالمي. وبشأن منطقة الخليج والشرق الأوسط والقرن الأفريقي، تدعو الاستراتيجية إلى مراقبة الصين، التي تزيد في نشاطها الاقتصادي ووجودها العسكري في المنطقة، وتكثّف علاقاتها بإيران.
وتشير الوثيقة إلى أن بكين تسعى لزيادة تأثيرها داخل منظومة الأمم المتحدة، وحجز مكان متقدّم لها على صعيد صياغة المعايير الدولية. انطلاقاً مما تقدّم، توصي برلين بتعزيز الاستثمارات الأوروبية في مجال البنية التحتية الرقمية والنقل والطاقة ونسج علاقات تجارية بين الاتحاد الأوروبي ودول منطقتي المحيطين الهندي والهادئ، وتفعيل الشراكات التجارية في أوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى، ولا سيما فيما يتعلّق بتجارة المواد الخام والطاقة واستخدام هياكل بنك الاستثمار الأوروبي وبنوك التنمية الوطنية والصناديق الخاصّة، من أجل بناء أكبر عدد ممكن من المشاريع عالية الجودة حول العالم، وإصلاح منظمة التجارة العالمية.
خاتمة
هذه الاستراتيجية، الأولى من نوعها لمقاربة العلاقات الثنائية ببكين، تعكس استفاقة ألمانية متأخّرة حتّمها صعود الصين وتحوّلها إلى محرّك رئيس لعجلة الاقتصاد العالمي، بحيث أصبحت مقاطعتها ترتّب على الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، أثماناً عالية. أثمانٌ تُرغم واشنطن على العودة إلى المنافسة المنضبطة مع بكين، والتّحذير من تداعيات القطيعة وسوء التقدير معها، وتُلزم برلين أبضاً بتبنّي مقاربة براغماتية للعلاقات الثنائية، تؤكّد فيها اغتنام فرصة التعاون المثمر بين الجانبين، فتصبح الصين بذلك شريكاً وخصماً للألمان في الوقت نفسه.