العزف الصيني على إيقاع خطة "الحزام والطريق"

مما لا شك فيه أن النظام العالمي، وخصوصاً بعد الصدام الروسي الغربي في الساحة الأوكرانية وسياسات الصين القديمة والجديدة في المنطقة والعالم، أصبح يتغير بشكل دراماتيكي في الآونة الأخيرة.

  • خلال الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية - بكين
    خلال الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية - بكين

كثر الحديث في السنوات الأخيرة الماضية عن الأهمية الإستراتيجية للعلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية بين إيران والصين، ولكن اليوم، ومع رعاية بكين الحدث الذي شغل الصحافة العالمية في الأيام الماضية، وهو عودة العلاقات الإيرانية والسعودية إلى طبيعتها بعد انقطاع دام أكثر من 6 سنوات، من خلال اتفاق وقعته الدولتان الجارتان بحضور رأس الدبلوماسية الصيني في 10 مارس/آذار الجاري، ستصبح العلاقات الصينية الإيرانية أكثر إستراتيجيةً من ذي قبل.

أعلنت حكومة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، قبل أيام من انتهاء ولايته، عن اتفاقية اقتصادية وأمنية بين إيران والصين لا تزال معظم بنودها سرية حتى اللحظة. تمتد هذه الاتفاقية ربع قرن، وتفوق قيمة الاستثمارات فيها 400 مليار دولار أميركي. حصل ذلك في الوقت الذي كانت إيران تخوض مفاوضات صعبة ومعقدة مع الغرب حول عودتها وأميركا إلى الاتفاق النووي الذي وقع في عام 2015.

يقول المثل الشعبي الصيني: "الثعلب الذي يطارد أرنبين لن يصطاد أياً منهما". أميركا التي حاولت عرقلة تقدم الصين وإيران اقتصادياً جعلت التعاون بين هذين البلدين الآسيويين أمراً ضرورياً. وقد تمظهر تطور العلاقات الاقتصادية والسياسية بين إيران والصين عبر هذه الاتفاقية كصفعة لأميركا التي فرضت عقوبات ضخمة على إيران خلال 40 عاماً بسبب برنامجها النووي وقضايا سياسية أخرى.

ما دور خطة "الحزام والطريق" في كل ما سبق؟

مبادرة "الحزام والطريق" أو "مشروع الحزام والطريق" هي مبادرة اقتصادية ضخمة أطلقتها الحكومة الصينية عام 2013 بهدف بناء شبكة تجارية دولية تربط الصين بالعالم، عبر إنشاء مسارات للنقل البري والبحري والجوي، وبناء مشاريع اقتصادية وبنية تحتية في الدول التي تمر بها تلك المسارات، مثل الطرق والسكك الحديدية والموانئ والمطارات.

تشمل هذه المبادرة أكثر من 60 دولة آسيوية وأفريقية وأوروبية، وتشكل جزءاً من إستراتيجية الصين للتوسع الاقتصادي وزيادة نفوذها في العالم. تمتلك هذه المبادرة أهمية إستراتيجية كبيرة للصين، وتمثل فرصة لتنمية اقتصادها وتوسيع نطاق تأثيرها في العالم، وتشكل فرصة لتوطيد العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الصين والدول المشاركة فيها، وتوسيع رقعة التجارة الدولية، وزيادة حجم التبادل التجاري والاستثمارات.

تعد إيران من أهم النقاط الجغرافية المركزية لمشروع "الحزام والطريق"، إذ إنها تصل وسط آسيا ببحر العرب عبر مضيق هرمز، وتعد من أهم الممرات البرية الإلزامية على خط الحرير التي تربط آسيا بأوروبا.

إضافةً إلى موقعها الجغرافي، فإنَّ إيران من أهم المصادر للطاقة والمعادن بالنسبة إلى الصين. وقد بلغت كمية النفط الخام الإيراني المصدر إلى الصين خلال الربع الأخير من عام 2022 نحو 1.2 مليون برميل يومياً، أي ما يعادل 10-20% من صادرات الصين اليومية من النفط. 

ماذا عن مكتسبات إيران الجيوسياسية في الشرق الأوسط بعد نحو 20 عاماً من الصراعات والحروب التي افتعلتها الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة العربية؟ هل تقع منطقة النفوذ الإيراني ضمن اهتمامات الصين في ما خص خطتها الاقتصادية والتجارية؟ 

استطاعت إيران، باعتراف الجميع، أن تحول كل التهديدات الأمنية والعسكرية على مقربة من حدودها، في العراق سوريا واليمن، إلى فرص سمحت لها بأن تحمي أمنها القومي عبر مساعدة حلفائها، وأيضاً أن تخلق لها نفوذاً إستراتيجياً عبر دعم أصدقائها ضمن ما بات يعرف باسم "محور المقاومة".

إذاً، نجحت إيران في أن تصنع لها نفوذاً برياً يمتد من حدودها مع العراق إلى البحر الأبيض المتوسط، رغم كلّ الزخم الغربي والعربي الذي استخدم كل الوسائل لإسقاط دول بأكملها تمهيداً لإقامة مشاريع اقتصادية ضخمة تخدم مصالح أميركا و"إسرائيل" وتساهم في سيطرتهما على المنطقة. 

أما المعضلة التي فرضت نفسها بعد كل هذه المكاسب العسكرية لمحور المقاومة، فقد كانت حول إمكانية ترجمة الانتصارات العسكرية إلى واقع اقتصادي قوي بمقدوره أن يصمد أمام الهجمات المرتدة الأميركية والعربية. 

من الواضح أن إيران وحلفاءها المحليين والإقليميين واجهوا صعوبة كبيرة في كسر الحصار الاقتصادي الغربي على دول المحور، ما جعل من الأزمات الاقتصادية القاسية في سوريا ولبنان واليمن أكبر دليل على حاجة طهران إلى التفكير خارج الصندوق. 

في هذا السياق، الصين لم تغفل عينها عن المنطقة. ومن الواضح أن قراءتها للمشهد الجيوسياسي جعلها تقدم على مبادرات وخطوات كبيرة وجريئة بالمعنى السياسي والاقتصادي، وليس آخرها المبادرة الرئاسية التي أطلقها الرئيس شي جين بينغ لتسوية العلاقات بين إيران والسعودية. 

الصين التي عملت في السنوات الماضية على تعميق شراكتها الاقتصادية والتجارية وتطويرها مع كل من إيران والسعودية بأمس الحاجة اليوم لإعادة العلاقات السعودية والإيرانية إلى طبيعتها، لتخلق لنفسها قبل أيّ طرف آخر فرصة جيو-اقتصادية غاية في الأهمية، وتعبّد طريقاً فرعياً لخط الحرير، ولكنه مركزي، يربط وسط آسيا بالبحر الأبيض المتوسط، مروراً ببحر عُمان.

بما أن الساحات التي تملك إيران فيها نفوذاً سياسياً وعسكرياً مهماً هي ساحات مشتركة بينها وبين المملكة العربية السعودية، وعنوان هذا التقاطع كان للأمس القريب التنافس الشرس على النفوذ والمصالح بين الدولتين الجارتين، كانت خطوة الصين الأخيرة في بكين ذات أهمية كبيرة على صعيد تحويل هذا الصراع إلى تعاون وتقاطع مصالح بين الرياض وطهران وبرعاية صينية خالصة. 

لذا، فإن كل التعليقات الإيجابية الأميركية على الخطوة الصينية لا يمكن تصديقها إذا ما دقّقنا في قراءة المشهد في مرحلة ما بعد عودة العلاقات السعودية والإيرانية إلى طبيعتها وتداعياتها على المصالح الأميركية في المنطقة.

في المحصّلة، فإنّ الصين باشرت بشكل حثيث، وعلى نحو ذكي، بتطبيق خطتها الاقتصادية عبر استغلال أخطاء منافستها الأولى في العالم، فيما أميركا التي اعتمدت عقيدة الصدمة، واستثمرت فيها لعقود طويلة، تقف اليوم أمام عقيدة صينية معاكسة تماماً، ولكنها إلى اليوم تبدو أكثر فعالية وأهم سياسياً واقتصادياً لدول المنطقة.

بين سياسة الترهيب الأميركية وسياسة الترغيب الصينية، كان لا بدَّ من تغير نوعي وضروري في السياسة الخارجية السعودية ليلاقي خطة "الحزام والطريق" في منطقة الشرق الأوسط. ولي العهد السعودي الطامح اقتصادياً منذ اليوم الأول إلى استلام سدة الحكم في المملكة، كان لا بد من أن يتجرأ على هذا التحول السياسي اليوم في ظل احتدام الصراع بين الشرق والغرب، في سبيل أن يجد لرؤيته الاقتصادية فرص نجاح.

استشرف الكاتب الأميركي روبيرت كابلان أهمية الدور الصيني في وسط آسيا وشرق الأوسط، معلقاً في إحدى ندواته عام 2019: "إيران والصين.. الحلف الذي يستحيل كسره أبداً".

 ومن يعرف روبيرت كابلان يعلم أنه ليس من المسرورين بتقدم الصين وإيران على الصعد كافة، فقد قال ما قاله من باب التحذير، ناصحاً حكومته في واشنطن باتباع أسلوب مختلف مع إيران تحديداً. وبمعنى آخر، على أميركا أن تمنع بكل الوسائل أي تقارب صيني إيراني في المستقبل، ولو تطلب ذلك عودة إدارة بايدن إلى الاتفاق النووي مع إيران. 

لم تعد واشنطن إلى الاتفاق النووي، ولم تنفع كل ضغوطها الاقتصادية ضد طهران، كما فشلت أيضاً كل محاولات افتعال "ربيع إيراني داخلي". ومع كل هذا، استغل محمد بن سلمان تعقيدات الوضع الغربي مع روسيا ليقوم بتحرير رؤيته الاقتصادية والسياسية من التبعية الأميركية، ولو جزئياً، عبر الانفتاح على كل من الصين روسيا وإيران. 

هل علينا أن نتوقع رد فعل أميركياً على خطوات الصين الجريئة في الأشهر المقبلة؟ 

مما لا شك فيه أن النظام العالمي، وخصوصاً بعد الصدام الروسي الغربي في الساحة الأوكرانية وسياسات الصين القديمة والجديدة في المنطقة والعالم، أصبح يتغير بشكل دراماتيكي في الآونة الأخيرة.

وكما يبدو، ليس باستطاعة واشنطن وحلفائها عرقلة هذا التغير في ظل انغماسهم في الحرب الأوكرانية وما تسببته من أزمات اقتصادية متلاحقة في كل من أوروبا وأميركا.

كيف ستتأثر "إسرائيل" في ظل كل هذه المتغيرات؟  

كما بات معروفاً، فإن الكيان الصهيوني هو أحد إنتاجات النظام العالمي الذي تمخض بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومع الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط، كان لـ"إسرائيل" الكثير من الامتيازات الأميركية التي سمحت لها بأن تتوسع من خلال الحروب التي شنتها على دول الطوق، ولكن اليوم، ومع ما يشهده النظام الأحادي القطب من تقهقر وتراجع، فمن الطبيعي أن نشهد تداعيات كبيرة في الكيان الإسرائيلي، وما الاحتجاجات الأخيرة ضد حكومة نتنياهو، والانقسامات التي تتسع وتتعقد منذ سنوات، سوى دليل على أن هذا الكيان أصبح أمام أزمة وجودية بفرعيها الداخلي والخارجي.

بناءً على كل ما تقدم، فإن التنين الصيني الذي يراقب كل محاولات واشنطن لتطويقه في بحر الصين الجنوبي وشرق آسيا يعيد اليوم ترتيب أوراق المنطقة في الملعب الشرق أوسطي الذي كانت أميركا تهيمن عليه لفترة طويلة، وذلك لهدفين رئيسيين، الأول تأمين أكبر قدر ممكن من المصادر النفطية، والآخر تفعيل خطته الاقتصادية "الحزام والطريق"، في منطقة هي بأمس الحاجة اليوم إلى الاستثمارات الخارجية وإعادة إحياء مرافئها الحيوية، وخصوصاً أنها خارجة من عدد كبير من الحروب المدمرة.