العراق.. من التعطيل إلى التشكيل
إن أي مشروع سياسي هدفه التغيير أو إحداث تطوير في البنية السياسية لأي دولة، يجب في المرتبة الأولى أن ينطلق من خدمة المجتمع الذي جاء منه.
بعد مخاضٍ عسير استمر عدة أشهر، تقترب الحكومة العراقية الجديدة من إبصار النور، لتعلن انتهاء الانسداد السياسي، الذي بدأ بُعيد الانتخابات البرلمانية التي جرت في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 2021، وأسفرت عن نتائج متناقضة واعتراضات بالجملة.
بداية حلحلة الأزمة كانت عبر عقد جلسة مجلس النواب لاختيار رئيس للجمهورية، في الثالث عشر من تشرين الأول/أكتوبر الحالي، والتي شهدت منافسة بين الرئيس السابق برهم صالح والمرشح التوافقي عبد اللطيف رشيد، الذي كانت له الغلبة بعد جولتين من التصويت. وفور إعلان فوزه، كلّف عبد اللطيف رشيد المهندسَ محمد شياع السوداني تشكيلَ الحكومة الجديدة.
بداية الأزمة في الانتخابات البرلمانية
كانت الانتخابات البرلمانية المبكّرة، في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 2021، نقطة التحول في مسار الأحداث السياسية داخل العراق. نتائج الانتخابات أسفرت عن فوز التيار الصدري بـ73 مقعداً في المجلس الذي يضم 329 نائباً، لكن قادة الإطار التنسيقي وبعض القوى الكردية والسنية قدّموا اعتراضات على النتائج إلى اللجنة العليا للانتخابات، ثم إلى المحكمة الاتحادية، ورافقت عمليةَ الاعتراض مظاهراتٌ شعبية واسعة أمام المنطقة الخضراء وسط بغداد، قبل أن تعلن المحكمة تثبيت النتائج.
بعد ذلك، دخلت الأحزاب السياسية المجلس النيابي وَفْقَ نِسَب متفاوتة، فالتيار الصدري أعلن مشروع الأغلبية الوطنية، وشكّل التحالف الثلاثي إلى جانب الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، لكن هذا التحالف فشل في الحصول على الأغلبية النيابية، بعد تمكن الإطار التنسيقي من الحصول على الثلث الضامن داخل المجلس.
التحالف الثلاثي فشل أكثر من مرة في تمرير جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني، وعجز أيضاً عن تمرير مشروع الأغلبية الوطنية، فما كان من التيار الصدري إلّا أن أعلن استقالة نوّابه من البرلمان بطريقة كانت "متسرعة"، إلى حدّ كبير.
الانسحاب المتسرّع
بعد محاولات فاشلة استمرت ثمانية أشهر لتشكيل الحكومة وتمرير مشروع "الأغلبية الوطنية" في مجلس النواب، أصدر السيد مقتدى الصدر أمراً باستقالة نواب تياره من المجلس، ليفسح المجال أمام الإطار التنسيقي ليصبح صاحب الأغلبية البرلمانية.
الإطار التنسيقي، بعد حصوله على الأغلبية النيابية التي تمكّنه من اختيار رئيس الوزراء الجديد، عمد إلى تسمية محمد شيّاع السوداني لرئاسة الحكومة، لكن التيار الصدري رفض ترشيح السوداني، ودعا إلى إجراء انتخابات مبكرة جديدة.
كان يمكن للتيار الصدري استخدام الضغط داخل مجلس النواب لحلّ المجلس والدعوة إلى انتخابات مبكّرة، بدلاً من الذهاب نحو خيار الاستقالة وخسارة الثقل السياسي داخل المجلس. لذلك، كان الخيار خاطئاً، والدليل ذهاب التيار نفسه إلى القضاء لتقديم اعتراض على قبول استقالة أعضائه من البرلمان، في سبيل العودة إلى المجلس، لكن المحكمة الاتحادية ردت الطلب ورفضته.
لجأ التيار الصدري إلى الشارع من أجل قلب المعادلة السياسية، فما كان من أنصاره إلّا أن اقتحموا المنطقة الخضراء وسط بغداد، والتي تضم المؤسسات الحكومية والمراكز الأمنية. ووصل المحتجون إلى مجلس النواب معلنين تعطيل العمل فيه، ومانعين عبر ذلك انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، وتكليف السوداني رئاسة الحكومة.
بعد أيامٍ من تعطيل عمل المجلس النيابي، لجأ التيار الصدري إلى خطوة تصعيدية أخطر، تمثّلت بالهجوم على المجلس الأعلى للقضاء والاعتداء على القوات المكلفة حمايته، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ العراق. وهي خطوة تعرّضت لانتقادات لاذعة من أصدقاء التيار الصدري قبل خصومه، الأمر الذي أجبر التيار على دعوة أنصاره إلى الانسحاب من أمام مجلس القضاء الأعلى.
لاحقاً، جاءت الخطوة الأخطر في العملية السياسية، والتي كادت تتحول إلى حربٍ دامية، عندما أعلن السيد مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي بصورة نهائية، فهاجم أنصاره يوم 29 آب/أغسطس الماضي المنطقة الخضراء بالأسلحة المتوسطة والثقيلة، واستمرت الاشتباكات يوماً كاملاً، قبل أن يخرج السيد الصدر داعياً إلى الانسحاب خلال ساعة واحدة من أمام المنطقة الخضراء.
اليوم، لا يزال التيار الصدري يملك القدرة على استخدام ورقة الشارع، التي لطالما كان لاعباً ماهراً في تحريكها، من أجل الحصول على مكاسب سياسية من خصومه السياسيين، لكن تلك الورقة لم تعد، في الوقت الحالي، تمتلك التأثير نفسه، وخصوصاً بعد الحوادث التي شهدها العراق عقب انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان، بحيث كان تحريك الشارع فوضوياً ودموياً في بعض الأحيان. فالتيار الصدري فقدَ الزخم الذي كان يتمتع به، وفقدَ أيضاً القدرة على التأثير في الأطراف السياسية الأخرى من الأصدقاء والخصوم، على حدّ سواء.
الأغلبية الوطنية تطوير للنظام السياسي أَمْ ترسيخ للواقع الحالي؟
إن أي مشروع سياسي هدفه التغيير أو إحداث تطوير في البنية السياسية لأي دولة، يجب في المرتبة الأولى أن ينطلق من خدمة المجتمع الذي جاء منه، وأن يحمل مبادئَ وأفكاراً هدفها تطوير النظام السياسي القائم أساساً، بالإضافة إلى أن المشروع يجب أن تضطلع به طليعة ثورية تحمل أفكاراً جديدة، وأن تكون تلك الطليعة من النخب العلمية والكفاءات الأكاديمية.
إذا ما تم إسقاط المعطيات السابقة على مشروع الأغلبية الوطنية، والذي نادى به التحالف الثلاثي، بُعيد الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2021، فلا يمكن الاقتناع بأن هذا المشروع وُلِدَ لتغيير طريقة الحكم أو إدارة البلاد، ولا يمكن نقل النظام السياسي من التوافقية إلى الأغلبية بوجود نظام المحاصصة القائم. وهنا، يمكن أن نسأل: هل كان مشروع الأغلبية الوطنية سيلغي نظام المحاصصة السياسي الذي وضعه بول بريمر في العراق قبل 17 عاماً؟
الحقيقة أن مشروع الأغلبية الوطنية كان مجرد إعادة صياغة للنظام السياسي الذي وضعه الاحتلال الأميركي، لكن بثوب جديد، بحيث تتقاسم فيه الأطراف التي يريدها التحالف الثلاثي المناصب العليا في الدولة، وهي الطريقة نفسها التي استُخدمت خلال الحكومات السابقة، لكن هذه المرة ستكون المناصب من حصة فريق واحد، وهو التحالف الثلاثي. وهذا يعني أن الطرف المستبعَد سيكون الإطار التنسيقي وسائر المكون الكردي، بالإضافة إلى المستقلين، الأمر الذي يعني أن مشروع الأغلبية كان يريد نقل النظام السياسي من التوافقية إلى استئثار طرف واحد بالحكم.
ومن تلك النقاط جاء رفض الإطار التنسيقي لفكرة تمرير مشروع الأغلبية الوطنية داخل مجلس النواب، ونجح في الحصول على ما يريده، من خلال امتلاكه الثلث الضامن.
الإطار التنسيقي يسمّي السوداني
بعد نجاح المساعي لانعقاد جلسة مجلس النواب قبل أيام، كلّف الرئيس الجديد عبد اللطيف رشيد مرشحَ الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني رئاسةَ الحكومة الجديدة، بحيث بدأ السوداني مشاوراته السياسية لإعلان تشكيلته الوزارية خلال وقت قصير.
حكومة "الخدمات"، كما أطلق عليها رئيس الوزراء المُكلّف محمد شيّاع السوداني، تنتظرها تحديات متعددة في كل المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية. فالأزمة الخانقة، التي شهدها العراق منذ عام 2019، أرخت بثقلها على مفاصل الدولة كافّةً، وأدت إلى تعطيل مشاريع حيوية لاستمرار عمل المؤسسات الحكومية، وفي مقدمتها مشروع "الموازنة المالية العامة للدولة"، وهو التحدي الأهم الذي ينتظر الحكومة بعد تسلمها مهمّاتها، بصورة كاملة.
على الصعيد السياسي، ستكون حكومة السوداني مُطالَبة بإعادة تفعيل الحوار الوطني بين مختلف القوى السياسية، من أجل ترميم الشرخ الذي أفرزته الأزمة الماضية، وخصوصاً بين ائتلاف إدارة الدولة (الإطار التنسيقي، تحالف العزم، الاتحاد الوطني الكردستاني، تحالف السيادة، الحزب الديمقراطي الكردستاني، كتلة بابليون) والتيار الصدري، لأن هذا الحوار من شأنه إعطاء مزيد من القوة للحكومة الجديدة، وقدرة أكبر على التأقلم مع المتغيرات السياسية الداخلية والخارجية، على حدّ سواء.
التحدي الدقيق الذي ينتظر حكومة السوداني هو الملف الأمني، من أجل العمل على حفظ المنجز الأمني الذي تحقق عبر القضاء على تنظيم "داعش" الإرهابي، بالإضافة إلى ترسيخ السلم الأهلي عبر القضاء على ظاهرة السلاح المتفلّت، والحد من انتشار الميليشيات المسلحة، والقضاء على بقايا الجماعات التكفيرية. وهذا الأمر يتطلب دعماً استثنائياً للجيش العراقي والقوات الأمنية والحشد الشعبي، من ناحيتي التسليح والتدريب.
بينما يمثل الجانب الاقتصادي الهم الأكبر للشعب العراقي، فالوضع، خدماتياً ومعيشياً، يشهد انهياراً كبيراً في ظل غلاء الأسعار وارتفاع معدل التضخم وزيادة نسبة البطالة. وكل ذلك يتطلب عملاً حكومياً مكثفاً من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمرّ فيها العراق.
ولعلّ أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه حكومة السوداني هو "مكافحة الفساد"، التي تتطلّب عملاً وطنياً متكاملاً خلال المرحلة المقبلة، وإطلاق يد القضاء لمحاسبة المتورطين في قضايا الفساد الضخمة في المؤسسات الحكومية، والتي كان آخرها سرقة 2.5 مليار دولار أميركي من أموال هيئة الضرائب في ظل حكومة تصريف الأعمال، برئاسة مصطفى الكاظمي.
وأكدت محكمة النزاهة العراقية تلقيها إخباراً في آب/أغسطس الماضي يتضمن وجود شبكة منظمة مرتبطة بأشخاص من ذوي النفوذ، تلاعبت بمبالغ الأمانات الجمركية والضريبية. ووفق ما سربته بعض وسائل الإعلام العراقية، فإن عملية السرقة امتدت على مدار أشهر، إذ يؤكد كتاب رسمي صادر عن هيئة الضرائب أن عملية سحب المبلغ (2.5 مليار دولار)" تمّت في الفترة الممتدة من 9 أيلول/سبتمبر 2021 إلى 11 آب/أغسطس 2022، وحرّرت هذه الصكوك المالية لـ 5 شركات، قامت بصرفها نقداً بصورة مباشرة، من دون الإشارة إلى عناوين هذه الشركات.
إلى ذلك، تواجه حكومة السوداني جملة من التحديات الخدمية التي تؤرّق الشارع العراقي، منها معالجة ضعف القطاع الكهربائي، وترميم النقص في المستشفيات والمراكز الصحية، وضبط الأسواق ومواجهة غلاء الأسعار، بالإضافة إلى معالجة مشكلة شحّ المياه، والحد من البطالة عبر خلق فرص عمل وتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية، ودعم المشاريع الاقتصادية الكبيرة، ودعم القطاع الخاص وتشجيعه على المشاركة في تنمية اقتصاد الدولة، ودعم القطاع الزراعي وتأمين مستلزماته.
أميركا جاهزة للتعطيل
في ظل المرحلة الدقيقة التي تمر فيها العملية السياسية العراقية، لا يبدو أن الإدارة الأميركية بعيدة عما يجري، فهي تتابع الوضع عن كثب شديد، وتوجّه أدواتها على نحو يخدم الأهداف الاستراتيجية الأميركية.
يقول الخبير المتخصص بالشؤون العسكرية في معهد واشنطن، مايكل نايتس، في تقرير له بشأن "تقييم الحكومة العراقية الجديدة والمقاييس الواجب اتّباعها للمحافظة على المصالح الأميركية"، والصادر يوم 19 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، إنه "في ظل هذه الظروف المحزنة في العراق، تحتاج حكومة الولايات المتحدة وشركاؤها إلى الدفع بهدوء، لكن بإصرار، من أجل إجراء انتخابات مبكّرة وشاملة لاستعادة الشرعية للعملية الديمقراطية".
ويعدّد التقرير أبرز "التحديات لمصالح الولايات المتحدة في العراق"، وأنه عندما يشكّل رئيس الوزراء المنتخب حكومته، سيشعر عدد من المراقبين الدوليين بالارتياح نتيجة أسباب مفهومة: "السوداني، وزير سابق ومحافظ، وسياسي محترف وجذاب، وستضع حكومته علامة في بعض المربعات من حيث المؤهلات التكنوقراطية والاندماج الإثني - الطائفي. ومع ذلك، في ظل هذا القشرة الجذابة، من المحتمل أن تُظهر الحكومة الجديدة عدداً من العيوب المزعجة، والتي لا يمكن للولايات المتحدة والشركاء الآخرين تجاهلها".
ويشير التقرير إلى أنه تم انتخاب أعضاء الجماعات المصنّفة "إرهابيةً" من جانب الولايات المتحدة، مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وحلفاء لإيران آخرين في البرلمان الجديد، وقد يصبح بعضهم قريباً وزراء في الحكومة.
التضييق على حكومة السوداني
يكشف تقرير معهد واشنطن لمايكل نايتس عن عدد من الحالات، التي قد تلجأ فيها أميركا إلى فرض عقوبات على الحكومة العراقية الجديدة:
● إذا قامت حكومة السوداني بإقالة شركاء الولايات المتحدة الموثوق بهم أو تهميشهم في الجيش وجهاز المخابرات الوطني العراقي (INIS) بهدوء، فقد تقوم واشنطن على الفور بتقليل مرتبة بغداد كشريك يمكن الوثوق به، من خلال معلومات استخبارية وتكنولوجيا حساسة.
● إذا حاولت الحكومة الجديدة استخدام البنك المركزي العراقي كصندوق احتياطي مقوّم بالدولار، فمن المرجح أن تبدأ وزارة الخزانة الأميركية قطع وصول بغداد إلى الدولار والنظام المالي العالمي.
● العودة إلى مسار 2018-2019 ستكون مدمرة بالقدر نفسه من الناحية المحلية. قد يكون السوداني ودوداً وقادراً، لكن كان كذلك عادل عبد المهدي عندما وصل إلى السلطة عام 2018، قبل أن يسلم زمام الأمور إلى حلفاء إيران من دون تردد.
الجواب، بالنسبة إلى صُنّاع السياسة الأميركيين، هو إعادة تنشيط نسخة معززة عن "قواعد الطريق" للفترة 2018-2019، بحيث كان العراق تحت المراقبة عن كثب من جانب واشنطن وغيرها من الأعضاء الأقوياء في التحالف الدولي.
ويتطرّق التقرير إلى ضرورة التزام سريع بشأن إجراء انتخابات مبكرة في ظل قانون انتخابي عادل، الأمر الذي قد يؤدي إلى تحسين فرص المحافظة على الديمقراطية وكبح عدم الاستقرار.
تقرير معهد واشنطن للدراسات، وإن لم يكن صادراً عن جهة رسمية، فإنه يعبّر بالمطلق عن طبيعة السياسة الأميركية المتوقَّعة في العراق وطريقة تعاملها مع حكومة محمد شياع السوداني، ويدلّ على الخوف من فقدان الدور الأميركي الفاعل في هذا البلد. لذلك، فإن الإدارة الأميركية تفكر منذ الآن في كيفية التعاطي مع هذه الحالة.