العام الدراسي وأهل غزة
إذا كان العدو يعتقد أنه بقتل الأطفال سيحقق انتصاره الوهمي فهو واهم، فأبناء النكبة كبروا وأنجبوا أبطالاً ومروا بالظروف نفسها، ولكن بصورة أقسى وأصعب هذه المرة.
أحد عشر شهراً مر على شعبنا بصعوبة، رغم الآهات والمآسي، بعدما ارتقى آلاف الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وما زال شلال الدم ينزف، وما زالت آلاف الأطنان من القنابل تنزل على الغزيين بلا رحمة أو هوادة، ولا تدل إلا على نازية وسادية الاحتلال الصهيوني في حرب الإبادة المستمرة على مسمع ومرأى من العالم (الحر)؛ ففي هذه الحرب غير العادلة، لا توجد محرمات ولا قوانين ولا قواعد اشتباك، فلم تبق مدرسة أو مسجد أو مستشفى أو مسكن أو خيمة إلا وقد تم تدميرها كلياً أو جزئياً على قاطنيها من المدنيين الأبرياء وبتكرار متعمد.
ومع انطلاق العام الدراسي في فلسطين غداً في التاسع من أيلول، سيتوجه طلاب الضفة الغربية إلى مدارسهم التي فقدت عدداً لا بأس به من الشهداء خلال الاجتياحات المتكررة لجنين وطولكرم ونابلس وطوباس... أما أهل غزة وأطفالها، فقد فاتهم العام الماضي بفعل استمرار الحرب البربرية، فاستشهد آلاف الطلبة والمدرسين، وهدمت مئات المدارس التي أصبح معظمها ملاجئ للنازحين ولمن فقدوا بيوتهم وأماكن سكنهم.
لا أدري كيف سيكون شعور ابن غزة وهو يرى أخاه في الضفة حاملاً حقيبته ومتوجهاً إلى المدرسة. أما هو، فيبحث عن قطرة ماء أو قطعة خبز يسد فيها جوعه المستمر أو يبحث عن مكان آمن يلجأ إليه، ولكن لا يوجد أي مكان آمن في غزة، فكل الأماكن مستهدفة، ولا توجد محرمات، كما أن المساعدات لا تصل لا براً ولا جواً، والموارد أصبحت شحيحة.
كيف سيواجه هذا الطفل العالم بعد انتهاء الحرب التي لا بد من أن تضع أوزارها في نهاية الأمر؟ هل يغفر السكوت عن المجازر والقتل والهدم أم أن هذا سيؤثر في نفسيته ويجعله يكره العالم والعلم بعدما شاهد أنه لا يوجد احترام للقانون الدولي ولحقوق الطفل والمرأة وحقوق الإنسان، وسيصنع منه ثائراً ومقاوماً ليأخذ بثأر أمه وأبيه وإخوته بعدما فقد كل شيء إلا إيمانه الذي تربى عليه؟! وإن استطاع أن يجد من يعلمه، فلا توجد مدرسة أو صف أو قرطاسية أو كتب، وربما لا يوجد معلمون، أو أصبح وجودهم شحيحاً، فالحرب لم تبقِ شيئاً على حاله، وقد قضت على أحلام كل طفل بأن يصبح معلماً أو طبيباً أو مهندساً أو رساماً أو موسيقياً، وإن وجد معلماً، فقد يكون مكلوماً وفاقداً لعائلته وفاقداً الأمل في الحياة، فهل يستطيع أن ينشئ جيلاً متعلماً من لا شيء؟
بداية العام الدراسي يرافقها انتهاء موسم الصيف وبدء موسم الخريف في شهر أيلول، والذي ذنبه مبلول، كما يقول المثل، وسيعاني هذا الطفل، كما كل الغزيين، من تدفق الأمطار والسيول ومن البرد القادم، فالطفل لم يفقد العلم فقط، بل فقد الحنان والحب أيضاً. وأصبح مشهد الدم ورائحة الموت مألوفين له، وبات انتشار الأوبئة والأمراض شيئاً طبيعياً، فصديقه الذي كان يمشي معه أصبح شهيداً، ووالده أصبح شهيداً، وربما والدته، أو كلاهما، وغداً ربما هو يكون شهيداً إذا استمرت هذه الحرب اللعينة بمحرماتها ودمويتها.
إذا كان العدو يعتقد أنه بقتل الأطفال سيحقق انتصاره الوهمي فهو واهم، فأبناء النكبة كبروا وأنجبوا أبطالاً ومروا بالظروف نفسها، ولكن بصورة أقسى وأصعب هذه المرة، والفرق أن حكومات الدول العربية ودول العالم تآمرت عليهم صراحة وبوقاحة فاقت كل شيء.
هل هذه الظروف مجتمعة ستفقد هذا الطفل الأمل بالحياة أم أنه سيتغلب عليها، وستصنع منه إنساناً آخر، ولا شكَّ في أنه سيزداد كرهاً للاحتلال الصهيونازي ولمعاونيه، وستصنع منه رجلاً ليواجه مصيره وليتعلم من منهل الحياة، ففيها الكثير من الدروس والعبر، لتخلق منه فيلسوفاً أو قائداً، فمعظم القادة الثوار لم يكونوا متعلمين، ولكن الحياة هي من صنعتهم.
وسيكون واجبنا وواجب وزارة التربية والتعليم وواجب الأمم المتحدة، إن بقيت، أن تعمل على احتضان هؤلاء الطلبة، وأن تعمل على إنشاء المدارس والمصحات النفسية لهؤلاء الأطفال كي تعيد لهم الأمل في الحياة والتعلم، وليبنوا دولة فلسطين، وليكونوا مؤثرين فيها بعد زوال الاحتلال ودولة كيانه المصطنعة.