الصين تدشّن نظام التعدّدية القطبية برعايتها الاتفاق السعودي–الإيراني
بعد توقيع الاتفاق السعودي – الإيراني، ستشهد المنطقة تغيّرات واسعة، نتيجة الخوف من ذلك التقارب برعاية صينية، والعديد من المتابعين بدأوا في طرح الأسئلة المقلقة، خصوصاً بعد الإرباك الحاصل في واشنطن و"تل أبيب"
فعلتها الصين، وجمعت السعودية وإيران في بكين، وهما ألد خصمين إقليميين متنافسين ومتخاصمين حتى ينقطع النفس، وصدر إعلان مشترك باستئناف العلاقات الدبلوماسية، وإعادة فتح سفارتيهما وممثّلياتهما خلال مدة أقصاها شهران، وتزامنت تلك المفاجأة مع إعادة البرلمان الصيني انتخاب شي جين بينغ لولاية رئاسية ثالثة، تثبيتاً لإمكانياته في قيادة الصين، واحتلالها موقعاً أساسياً على الساحة الدولية، مع لاعبين كثر، يتوجسّون خيفة من التمدّد الصيني الناعم في معظم المجالات، ويلجأون إلى التضييق عليها قدر المستطاع، لمنعها من مدّ أذرعها في كل مكان تشعر بأنها قادرة أن تدخله.
ووصل الأمر مؤخّراً إلى توقيع الولايات المتحدة الأميركية اتفاقية أمنية مع الفلبين، لتسهيل الوجود العسكري الأميركي، ومراقبة التحرّكات الصينية في بحر الصين الجنوبي، وكذلك إقدام الرئيس الأميركي جو بايدن على اتخاذ العديد من الإجراءات، للتضييق على الصين في تصديرها للتكنولوجيا المتقدّمة من أشباه الموصلات، التي تزيد الحذر الأميركي من هيمنة الصين على قطاع التكنولوجيا، التي قد تشكّل منعطفاً أساسياً في السيطرة على الاقتصاد العالمي، وبأن من يسيطر عليها يسيطر على كل شيء.
وسبق ذلك، التوتر المقلق بين واشنطن وبكين، بعد حادثة اكتشاف منطاد التجسس الصيني فوق الأراضي الأميركية، وإسقاطه بطائرة عسكرية، وأيضاً إعلان وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن إلغاء زيارة لبكين، كانت تهدف إلى ترميم العلاقات وتطويرها، وتنظيم الخلاف بين القوتين الاقتصاديتين، وخصوصاً في ما يتعلق بقضية تايوان، وإبقاء الصين تحت العين الأميركية، وإن كان من الصعب إعادة تطبيق استراتيجية الاحتواء الأميركية، التي عرفتها الحرب الباردة، لمنع انتشار الشيوعية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
بعد الإعلان عن رعاية الصين للاتفاق السعودي – الإيراني، كانت المفاجأة الأساسية في رعاية الصين لتوقيع الاتفاق، والدخول في منطقة الحظر الأميركي، التي تعتبرها واشنطن ساحتها، وتمنع باقي الأطراف من تأدية أي دور فيها. لذلك لم تكن المفاجأة في التقارب بين الدولتين المتنافستين على النفوذ في المنطقة، بحيث تملك كل منهما أوراقاً تؤهّلهما لتأدية أدوار كثيرة في سياسات المنطقة، التي تعكس السياسات الدولية، وتحديداً تلك التي ترسمها الإدارة الأميركية، وتحاول الإمساك بمعظم مفاصلها، بعد إدراكها صعوبة السيطرة الكاملة لفرض تلك السياسات.
يأتي ذلك بعد تراجع أميركا في العديد من مناطق نفوذها، في ظل التشتت الذي سبّبته العديد من القوى الصاعدة، وأيضاً التكتلات الإقليمية والدولية، التي شكّلت تحدياً للهيمنة الأميركية، ما يبشّر بنهاية قريبة للقطبية الأحادية في قيادة العالم، وظهور مؤشرات كثيرة إلى ولادة متوقّعة لنظام دولي جديد، قائم على التعددية السياسية أو الاقتصادية، وإلا الدخول في حروب مدمّرة، تكون الحرب العالمية الثانية مجرّد صورة مصغّرة عنها، مع الخطورة اللامتناهية لاستخدام السلاح النووي.
وذلك بعد التهديد باستخدامه من قبل روسيا، وهي من المرات النادرة التي وصلت فيها الأمور إلى هذا الحد الخطير، كون الحرب الروسية – الأوكرانية وضعت العالم في مواقع هي أقرب للحرب منها للتوصل إلى تسوية، والتي في نهاية المطاف قد يرضخ الجميع لإتمامها، طالما البديل سيكون الدمار لكل ما بنته الدول، أو رسّخته المؤسسات السياسية والاقتصادية الدولية للتحكّم والسيطرة على الاقتصاد العالمي.
لقد تميّز المشهد في العاشر من آذار/مارس بالأطراف المشاركة فيه، أكثر من بحث عودة التقارب السعودي – الإيراني، والوعد بعودة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. وما يدعو لملاحظة التميّز، أن الصين هي طرف في المشهد، بحيث لم نألف قيامها بأدوار سياسية في العلن، وانحصرت نشاطاتها في كيفية تثبيت موقعها الاقتصادي العالمي، وتركيزها على مشروع الحزام والطريق.
تلك المبادرة الصينية التي تهدف إلى ربط الصين بالعالم، عبر استثمارات ضخمة في البنى التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بالقارة الأوروبية، ليكون من أكبر المشاريع في تاريخ البشرية، كونه يشمل بناء مرافئ وطرقات وسككاً حديدية ومناطق صناعية، وتشارك فيه أكثر من 120 دولة، بغية تسريع وصول المنتجات الصينية إلى الأسواق العالمية.
لقد شكّل اقتحام الصين للمشهد الإقليمي، عاملاً مقلقاً للعديد من الدول الكبرى، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأميركية، كما أن قيام بكين بالتقريب بين دولتين، لطالما وقفت واشنطن إلى جانب السعودية في صراعاتها مع إيران، وهذا سيشكّل ظاهرة صينية قد تفتح شهيتها على تأدية أدوار عديدة لإنجاز التقارب بين دول المنطقة، وهذه جرأة سياسية تخوضها الصين، بالرغم من العلاقات الاقتصادية المميّزة بينهما.
لكن في المقابل فإن السعودية حليفة واشنطن هي طرف في الاتفاق، خصوصاً بعد الفتور بين الرياض وواشنطن، نتيجة التمرّد السعودي في اتباع سياسات داخل منظمة أوبك تخالف رغباتها، بعدما رفضت طلبها في خوض حرب زيادة إنتاج النفط لتخفيض أسعاره. كما أن الحروب المتنوّعة التي خاضتها إيران والسعودية، أفادت واشنطن كثيراً، لتوطيد موقعها في منطقة الخليج، وإبقاء تلك الحروب مفتوحة لاستغلالها في التحكّم بالسياسات الخليجية، وتأمين مصالحها على حساب تنمية تلك الدول، ومنعها من استغلال ثرواتها النفطية والغازية لتحقيق التنمية الشاملة.
فلم تستطع دول الخليج العربية أن تستفيد من إطارات التعاون في ما بينها، وكذلك صناعة جسور التقارب مع الدول الأخرى، وفي مقدمتها إيران والعراق، وتشكيل تكتل اقتصادي قادر على أن يوازي في قدراته وإمكانياته التكتلات الإقليمية الكبرى، كالاتحاد الأوروبي، عبر انتهاج سياسات الانفتاح الداخلي والخارجي، وحتى الإفادة من البرنامج النووي الإيراني، لإنشاء برامج عربية تستفيد من الطاقة النووية في المجالات السلمية، خصوصاً في ظل التغيرات المناخية، والاستعداد يوماً ما لنضوب النفط والغاز، أو أقلّه التقليل من استخداماته لحفظ حقوق الأجيال في تلك الثروات الوطنية، كما أن اليمن لن يكون بعيداً عن قطف ثمار التقارب، وتحقيق الاستقرار في منطقة الخليج.
لقد احتوى البيان المشترك في بكين بعد إنجاز الاتفاق السعودي – الإيراني، دلالات في غاية الأهمية، عند إشارته لإحياء اتفاق التعاون الأمني بين الدولتين عام 2001، وكذلك الإشارة إلى تفعيل الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب عام 1998، إضافة إلى الإشارة الدائمة إلى احترام السيادة الخاصة بالدول، وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية، والحرص على بذل الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي.
وهذا يعزّز فرضيّات التأثيرات الإيجابية لهذا التقارب على استقرار منطقة الخليج، وما الأجواء والتصريحات التي أعقبت توقيع الاتفاق إلا تأكيداً لتأثير هذا الاتفاق على الدول، التي بدت متعطشة لتخفيف عوامل التوتر التي أرهقت شعوبها، ووضعتها على الدوام في صراع سياسي وطائفي مفتوح، ينذر بكوارث لم تعد تحتمل، في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها العديد من الدول، خصوصاً بعد توقعات في انكماش الاقتصاد العالمي، وتأثيرات التضخم المقلقة على القدرات الشرائية للمواطنين، والانهيارات المتسارعة للعملات الوطنية في أكثر من دولة، فجاء الاتفاق السعودي – الإيراني كفاتحة أمل للدول وشعوبها، في تخطي أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
بعد توقيع الاتفاق السعودي – الإيراني، ستشهد المنطقة تغيّرات واسعة، نتيجة الخوف من ذلك التقارب برعاية صينية، والعديد من المتابعين بدأوا في طرح الأسئلة المقلقة، خصوصاً بعد الإرباك الحاصل في واشنطن و"تل أبيب"، نتيجة التصريحات المشوّشة من قبل الطرفين، في ظل توقّع العديد من الأطراف، بأن الاتفاق سيعقّد التطبيع العربي – الإسرائيلي، خصوصاً مع السعودية، بالرغم من كونه عاملاً مساعداً للاستقرار في المنطقة، التي شهدت تأجيجاً للصراع بين إيران والسعودية، وتعمّد توتير الأجواء بين الدولتين في معظم المناسبات الدولية، بهدف إبقاء المنطقة تعيش وضعاً ساخناً يزيد من سباقات التسلّح، ويجعلها مهيّأة على الدوام لمزيد من الحروب، أو الصراعات التي تدمّر ثروات الدول، وتعقّد فرص التعاون والتقارب بين شعوبها.
لقد أعربت واشنطن عن ترحيبها بأي جهود للمساعدة في إنهاء حرب اليمن، وتهدئة التوترات في منطقة الشرق الأوسط، وذلك تعليقاً على الاتفاق الإيراني – السعودي. والغريب في التصريح الأميركي، إشارته إلى منطقة الشرق الأوسط، للتدليل على إمكانية التقارب والتطبيع العربي – الإسرائيلي، وخصوصاً هدفها الدائم بحصول تقارب إسرائيلي – سعودي، لما تمثله السعودية من رمزية دينية، تقود عملية التطبيع المستقبلية.
بحيث تشجّع السعودية الدول الأخرى على دخول عملية التطبيع، لخدمة الأجندة الأميركية، وتسهيل الحضور الإسرائيلي في المنطقة، وقيادة اقتصادها، بعد تأمين الحماية لها وطمس القضية الفلسطينية، وضياع المقدسات، وتوطين الفلسطينيين في أماكن وجودهم، وتجريد أي دولة فلسطينية في المستقبل من مقومات الدول والسيادة والأمن والاقتصاد.
فهذا ما تريد استغلاله واشنطن من اتفاق التقارب، لقطع الطريق على تحقيق الصين لأهداف عديدة من الاتفاق، وكذلك منع تحقيق إيران لمكاسب خاصة تتعلق بملفها النووي، بعد اقترابها من ارتفاع معدلات نسبة اليورانيوم المخصّب إلى حدود 83.7%، بحسب تصريحات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أي أقل بقليل من نسبة 90% الضرورية لإنتاج قنبلة نووية، والتي دائماً تصرّح إيران بعدم رغبتها في ذلك، لتعارضها مع أيديولوجيتها الدينية.
وما التعاون المستجد بين إيران والوكالة، والتوصل إلى تفاهمات جديدة لحل القضايا التقنية العالقة، إلا تأكيداً لعودة قريبة للتفاوض حول الملف النووي الإيراني، وهذا يشكّل ضربة موجعة لـ "إسرائيل"، التي ظلت تحاول التهديد بضرب المنشآت النووية الإيرانية، بحيث عاشت المنطقة أياماً حذرة، بعد تسريبات باقتراب الضربة الإسرائيلية بضوء أخضر أميركي، ما كاد ينذر ولا يزال بحرب شاملة في المنطقة، سوف يكون الجميع فيها خاسراً.
جاء الاتفاق السعودي – الإيراني ليوقف الاندفاعة الإسرائيلية في تغيير التوازنات في المنطقة، واستغلال انشغال العالم بتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، وانشغال تركيا في الزلازل المدمّرة التي حصلت على أراضيها، وأيضاً انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العراق ولبنان وسوريا. فنحن في الأيام الأولى للاتفاق السعودي – الإيراني برعاية الصين، وقد تحمل الأيام المقبلة العديد من المفاجآت، نتيجة النقاط غير المعلنة في الاتفاق، وأيضاً الانعكاسات الكبيرة في أوضاع دول المنطقة وسياساتها.
فهل ستكون ثمار الاتفاق بين السعودية وإيران تدشيناً لحقبة جديدة من العلاقات، تفتح أبواب التعاون بين جميع دول الخليج، وتؤسس لمرحلة واعدة من الاستقرار والتنمية؟ وهل تستطيع واشنطن تحمّل نتائجه، التي ستجعلها تفقد زمام المبادرة في رعاية التوازنات الجديدة التي سيولّدها الاتفاق؟ وهل ستصمد بكين أمام التحديات المقبلة التي ستحاول منعها من تعميم سياسة الانفتاح والحوار في المنطقة؟
وهل ستغامر "إسرائيل" في تجاوز مفاعيل الاتفاق وتقوم بضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية في غياب الغطاء الأميركي أو بوجوده؟ أين روسيا من الاتفاق الذي يمهّد لتخفيف الضغط عليها نتيجة دخولها إلى أوكرانيا، وفتح آفاق التسوية التي تناسب أهدافها من الحرب على أوكرانيا؟ ما هو مصير التطبيع العربي – الإسرائيلي، الذي فتح بازاراً فاشلاً لعملية التطبيع، بعدما ثبتت استحالة تطبيع الشعوب مع العدو الإسرائيلي، واحتفاظها بمخزونها القومي لقضية فلسطين؟
وهل سنشهد اقتراب نهاية حرب اليمن، وحصول تسوية كبرى في سوريا، وفك الحصار عن لبنان، وإفادة العراق من اتفاق التقارب، كون العراق من الممهّدين للتقارب بين السعودية وإيران؟ الأيام المقبلة ستجيب عن كل ذلك، ما يثبت دينامية العلاقات الدولية، التي من أهم خصائصها الثابتة أنها غير ثابتة، وأن مصالح الدول تجعلها في تغيّر دائم.