الصّراع الروسي الأوكراني الغربي.. الأسباب والسيناريوهات

يحتدم الصراع نتيجة محاولات جعل أوكرانيا بؤرة نزاع متقدم مع روسيا، بانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي وجعلها قاعدة له، لإقامة قواعد للدرع الصاروخية في أراضيها، وهذا ما تجد فيه روسيا تهديداً لأمنها ووسيلةً للعمل على إثارة التناقضات داخلها.

  • نفت موسكو نية الغزو واعتبرت أنَّ واشنطن تسعى لاستفزازها وجرها إلى حرب لعدة أسباب
    نفت موسكو نية الغزو واعتبرت أنَّ واشنطن تسعى لاستفزازها وجرها إلى حرب لعدة أسباب

تؤكّد واشنطن في خطابها السياسي من أعلى رأس في الهرم، جو بايدن، وصولاً إلى المسؤولين في وزارتها الخارجية، أنّ روسيا قد تغزو أوكرانيا في أيّ وقت خلال الأيّام القليلة المقبلة. يترافق ذلك مع دعاية إعلامية مركّزة تقودها وسائل إعلامية أميركية وأوروبية، الأمر الَّذي دفع دول العالم إلى الشعور بالريبة وانتظار الأيام المقبلة، مع عيون شاخصة نحو اللحظة الحاسمة لانطلاق الآلة العسكرية الروسية نحو أوكرانيا.

ووسط التكهّنات والتوقّعات التي بدأت تُطلق عن وجود عدة سيناريوهات للهجوم الروسي، من بينها غزو كامل وصولاً إلى العاصمة كييف أو مجرّد توغل محدود، حذّر البيت الأبيض من أنّ غزواً عسكرياً روسياً لأوكرانيا تتخلّله حملة غارات جوية وهجوم خاطف على كييف بات احتمالاً فعلياً جداً خلال الأيام المقبلة حتّى قبل موعد انتهاء الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في العشرين من الشهر الجاري، ليرافق ذلك تخبّط أوروبي من هول الخطوة، إن حصلت، وبدء التلويح بالعقوبات تارة، وضرورة تفعيل العمل الدبلوماسي تارة أخرى.

 وكان لافتاً وجود تناغم أميركي - بريطاني في التحذير من الهجوم الروسي الوشيك، بينما التزمت الدول الأوروبية الأخرى الصمت، فالتأثر الأميركي البريطاني محدود بالمقارنة مع الدول الأوروبية التي يكون لخطوة التهديد المتقابل وإمكانية عمل عسكري تداعيات كبرى عليها.

في مقابل ذلك، تمسّكت موسكو بنفي التخطيط لأيِّ غزو، معتبرة أنَّ واشنطن تسعى لاستفزازها وجرها إلى حرب لعدة أسباب، منها نسف مبادرة الضمانات الأمنية التي تطالب بها بشأن توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فيما بدا المشهد في أوكرانيا متناقضاً، وسط إصرار السلطات على الدعوة إلى الهدوء، مع التركيز على الاستعداد لصدّ الهجوم الروسي إن وقع، فيما وصل التوتر إلى أشده في منطقة دونباس في الشرق على طول خط الجبهة مع المتمردين الانفصاليين الموالين لموسكو، وسط توقعات بأن تشهد المنطقة أحداثاً ستكون مبرراً للحرب.

أولاً: الأسباب والعوامل الاستراتيجية للأزمة الأوكرانية الروسية

الأزمة الروسية الأوكرانية ليست مستجدة، فكما هو معلوم، إن الأزمات أو الصراعات والنزاعات التي تعصف بالعلاقات الدولية، تنشأ عادةً نتيجة تناقض المصالح الاستراتيجية للدول الأطراف في مستويات مختلفة، ومن ذلك ما يعتبره أحد الأطراف مسّاً مباشراً بأمنه القومي. وتتحوَّل الأزمة إلى أزمة دولية عندما تتشعَّب فيها الأطراف وتتنافر فيها المصالح، كما يحصل اليوم في الأزمة بين روسيا وأوكرانيا.

تعدّ أوكرانيا سياسياً واقتصادياً دولة مهمة لروسيا، لكونها خاصرة رئيسية بالنسبة إليها، وتتمتع بثروات وإمكانيات عسكرية وصناعية وزراعية واسعة وضخمة، وموقع جغرافي يفصل بينها وبين "معسكر القوى الغربية"، فيما يرتبط البلدان بعلاقات كبيرة، ثقافية واجتماعية، وخصوصاً في المناطق الحدودية. 

كلّ هذه الأمور تجعل أوكرانيا "حديقة خلفية" بالنسبة إلى موسكو التي ترفض التخلّي عنها، كما ترفض تَحَوُّلَها إلى "وصاية الغرب". كما تشكل أوكرانيا لروسيا البناء الأساسي لمجالها الجيوستراتيجي الأوروبي. وبالتالي، إنَّ غياب كييف عن الطوق الروسي يشكّل فجوة كبرى في جدار الأمن الاستراتيجي الروسي - الأوراسي والسيطرة على العالم.

كذلك، يعد البحر الأسود أحد أكثر أسباب الصراع حالياً، ومنه قد تأتي شرارة الحرب، لأنَّ الناتو يعمل إلى جانب الأسطول الأميركي فيه، وهو ما تعتبره روسيا تهديداً، وخصوصاً أنها لا تسيطر حالياً على كل المشهد فيه، إذ يشكّل البحر الأسود منطقة استراتيجية مهمة وحساسة تتداخل فيها المصالح الجيوسياسية لعدد كبير من الدول المطلة عليه، مثل رومانيا وبلغاريا وتركيا (الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي)، إضافةً إلى أوكرانيا وجورجيا اللتين تجريان مفاوضات للانضمام إلى "الناتو".

وتكمن أهمية البحر الأسود بالنسبة إلى روسيا في كونه طريقاً مائياً يصل روسيا (عبر مضيق البوسفور) بالبحر الأبيض المتوسط الذي يتوسط 3 قارات، هي أوروبا وآسيا وأفريقيا، وهو ممر تجاري عالمي تسعى روسيا لتسهيل وصولها إليه، لتحقيق مكاسب اقتصادية وعسكرية، وهو أيضاً يصل روسيا بالدول الشرقية في أوروبا، مثل رومانيا وبلغاريا.

ويحتدم الصراع نتيجة محاولات جعل أوكرانيا بؤرة نزاع متقدم مع روسيا، بانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي وجعلها قاعدة له، لإقامة قواعد للدرع الصاروخية في أراضيها، وهذا ما تجد فيه روسيا تهديداً لأمنها ووسيلةً للعمل على إثارة التناقضات داخلها. لذلك، تعمل لمنع استخدام أوكرانيا لدفعها إلى تقديم التنازلات في بعض الملفات الدولية لمصلحة السياسية الأميركية والغربية، ومنها دفعها إلى القبول بمقايضة أوكرانيا بملفات أخرى في العالم، من سوريا والعراق وإيران إلى مصر وأفريقيا وغيرها.

لذلك، تشكّل أوكرانيا أرض كباش بين مصالح روسيا ومصالح الغرب، ما يدفع روسيا إلى تلمّس محاولات لكسرها، وهي بالتالي تحدد الخطوط الحمر، نتيجة وجود حدود طويلة بينها وبين أوكرانيا، لأن سيطرة الغرب على هذا البلد تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي.

ثانياً: سيناريوهات متوقعة للحرب

نتيجة لما تقدَّم، تصاعدت حدة الصراع بين الطرفين. وأمام الاستفزاز الذي حصل، حشدت روسيا قواتها على حدود أوكرانيا بشكل واسع وغير مسبوق. وفي حين أن كييف لا تملك الكثير من أدوات الضغط على موسكو، فإن الأخيرة تمسك بعدة أدوات وملفات وقضايا، أبرزها القرم ودعم الانفصاليين في شرق البلاد، الذين لا يخفون أحلاماً توسعية تكاد تبلغ نصف مساحة أوكرانيا، كذلك ورقة الغاز المتمثلة بمشروع "نورد ستريم 2"، الذي هدّد شبكات النقل الأوكرانية. 

في المقابل، تعوّل أوكرانيا على الدعم الأوروبي والأميركي على وجه التحديد، إذ تقوم الولايات المتحدة بدعمها من أجل مواجهة موسكو، ولكنّ ما يحصل حتى الآن لا يعدو كونه استعراضاً للعضلات بين موسكو وواشنطن، وهو ما قد يفسره حجم التصريحات وتبادل الاتهامات بين الجانبين. كذلك، إن الطرفين لا يريدان حرباً واسعةً، إلا أنهما مستعدان لها، وهو ما يعبّر عن الصراع بين الدول الكبرى على النفوذ والموارد والمصالح، فما هي السيناريوهات المتوقعة لذلك؟

- في السيناريو الأول، يمكن أن تستخدم روسيا الحشد العسكري لمحاولة انتزاع التنازلات من الغرب بشأن توسع الناتو. أما الطريقة الأكثر فاعلية بالنسبة إلى روسيا لتحقيق هذا الهدف، فهي إبقاء النزاع في شرق أوكرانيا على حاله، ما يعني استخدام القوات على الحدود كوسيلة ضغط سياسية، وليس للغزو.

- السّيناريو الثاني هو الهجوم المحدود لتثبيت وجود القوات المدعومة من روسيا، وهو أيضاً السيناريو المعقول، إذ تقدم موسكو مساندة مباشرة للقوات المدعومة منها في دونباس والقرم، لتعزيز المكاسب في منطقتي دونيتسك ولوهانسك، لإنشاء كيان سياسي يعمل إلى حدّ كبير ككيان مستقل. سيشمل ذلك السيطرة على نقاط الاتصال والعبور الرئيسية (مثل مدينة وميناء ماريوبول).

- السيناريو الثالث هو العمل على بناء جسر بريّ إلى شبه جزيرة القرم، وخصوصاً بعد أن قطعت أوكرانيا المصدر الرئيسي للمياه العذبة في شبه جزيرة القرم، وبالتالي يتحول بحر آزوف إلى بحيرة روسية. ومع ذلك، إن هذا الأمر سيتطلب قوة عسكرية كبيرة لاختراق المواقع المحصنة بقوة على طول الخطوط الأمامية في دونباس والسيطرة على ماريوبول.

- السيناريو الرابع هو أن يحصل هجوم كبير للاستيلاء على المدن الكبرى، وهو السيناريو الأكثر عدوانية. وقد ينطوي أيضاً على محاولة موسكو إعادة بسط سيطرتها على منطقة نوفوروسيا في جنوب أوكرانيا. وسيتطلَّب هذا الأمر حشداً واسعاً النطاق للقوات الروسية، لكن إذا نجح ذلك، فسيؤدي إلى تغيير جذري في المشهد الجيوسياسي والأمني في أوروبا الشرقية بطريقة دراماتيكية.

- السيناريو الخامس يمكن أن تثير روسيا من خلاله مشاكل سياسية في مناطق أوكرانية موالية لها ومعارضة للسلطة، والهدف الرئيسي هنا هو اختلاق أزمة سياسية محلية تسبّب مشاكل للحكومة المركزية في كييف. 

ويبقى الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا مطروحاً على الطاولة، لكن قد لا يحصل بشكل نهائي حالياً. وتقول دراسة لمؤسسة "راند" الأميركية، إن الناتو، على النحو القائم حالياً، لا يمكنه أن ينجح في الدفاع عن أراضي أكثر دولة عرضة للخطر في مواجهة أيّ غزو روسي.

وبحسب بعض التقديرات، في حال قامت موسكو بغزو أوكرانيا، فلن تصمد كييف أكثر من أسبوع، فضلاً عن أنَّ قيام الأخيرة بخطأ ما سيعطي الرئيس الروسي الحجة للقيام بضمّ أوكرانيا، وخصوصاً أنَّ قيام الناتو بأي إجراء عسكري ضد موسكو هو أمر مستبعد.

في المحصّلة، إن الحديث عن حرب شاملة هو أمر بعيد حتى الآن، فالأطراف الإقليمية والدولية الداخلة في الصراع غير مستعدة لحرب مفتوحة، إلا أنَّ السيناريوهات كافة تبقى مطروحة. ويبقى هناك عوامل أخرى قد تؤدي إلى الحرب، منها عوامل الاستفزاز الغربي، كما أنَّ هناك عوامل قد تؤكد الذهاب نحو الخيار الدبلوماسي، ومنها أن أوروبا مضطرة إلى فتح قنوات دبلوماسية مع روسيا، لأنَّ الأخيرة تمسك ورقة الطاقة التي تحتاجها أوروبا.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.