الشهيد الإيراني المسيحي ومهرجان العودة
بعد 39 عاماً، تم الكشف عن جثمان الشهيد الإيراني جاني بت أوشانا الذي قتل في العراق، وتشخيص هُويته من خلال فحص الحمض النووي (DNA).
في إحدى أشد نقاط المواجهة احتداماً، سقط الشاب الإيراني المسيحي من القومية الآشورية جاني بت أوشانا شهيداً في إحدى عمليات الدفاع المقدس قبل 39 عاماً، وهو في التاسعة عشرة، مع عددٍ من رفاقه الأبطال. كان ذلك عام 1984، خلال عمليات "بدر" شرقي دجلة، حين سقط دفاعاً عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حرب حركها الغرب ضد الثورة الناشئة.
يروي رفاق الشهيد أن جثمانه بقي في أرض العراق، نظراً إلى حساسية النقطة التي كان يقاتل منها المجند الجريء، إذ إنهم عجزوا عن سحبه إلى الوراء بعد إصابته، ولم يتمكنوا من إعادته إلى أهله. هكذا بقي الشهيد، بالنسبة إلى أهله وإخوته في الوطن، مفقود الأثر طوال عقود من الزمن.
لم تمل أمه الانتظار، ولم تشح بناظريها عن باب المنزل، ولم يتوقف اللسان عن التمتمة باسمه، ولا القلب عن النبض شوقاً لرؤية وجهه، إلا يوم وافتها المنية، فارتحلت تحمل شوقها معها، وكثيراً ما كانت تحلم بيوم عودته أو عودة جثمانه الطاهر. وهكذا، مضى الأب على الدرب نفسها؛ درب الشوق الذي لا ينتهي.
كان جاني بت قد أوصى رفيقه بأن يوصل وصيته إلى أهله. يقول في الرسالة: "بسم الله، أسرتي الأغلى من حياتي، عندما تصلكم هذه الأوراق، أرجو أن تكونوا بخير، وأن تكون حياتكم حلوةً كما عهدتها دائماً، وأن تكونوا محاطين بعناية الإله الواحد، والسيد المسيح والقديسة مريم، الحماة الوحيدين للمسيحيين، ولا سيما عائلتنا. أكتب لكم هذه السطور قبل مغادرتي تراب الوطن باتجاه أرض العدو المعتدي".
بعد شهادة جاني بت، زار السيد علي خامنئي عام 1986 منزل عائلته، وقدم واجب العزاء والتبريك لهم بنيل ابنهم مرتبة الشهادة. كانت تلك الزيارة كالحلم الذي تحقق بالنسبة إلى أفراد العائلة، كما يعبر شقيق الشهيد، الذي روى له عن أخيه الكثير، وعن فرادة خلقه وتميز شخصيته وإيمانه الكبير ومواظبته على الحضور والصلاة في الكنيسة، وحكى له كم كان وأشقاءه يتمنون لقاءه عن قريب.
اليوم، بعد 39 عاماً، تم الكشف عن جثمان الشهيد جاني بت أوشانا وتشخيص هُويته من خلال فحص الحمض النووي (DNA)، إذ أعلن قائد لجنة البحث عن المفقودين في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء باقرزاده نبأ التفحص والكشف عن الجثمان في كنيسة النبي يوسف في طهران، بحضور عائلة الشهيد وأقاربه وجمعٍ من المواطنين الآشوريين. وقد كان الإعلان بحضور عددٍ من القساوسة والرهبان من الطائفة الآشورية، الذين كانت لهم خطاباتٌ موجزة عن الشهيد جاني بت ومعنى الشهادة بالنسبة إلى الأشقاء المسيحيين.
وقد أقيمت مراسم توديع الشهيد في روضة "معراج الشهداء" يوم الأربعاء 26 نيسان/أبريل 2023، بحضور عامة الشعب ووفدٍ من عتبة حرم السيدة المعصومة، الذين حملوا معهم راية الحرم وهديةً معنويةً لابن شقيق الشهيد، نظراً إلى أن والديه ميتان. وقد أعلن الوفد أن هذه المبادرة أتت بعدما علموا بأن الفحص والكشف عن هوية الجثمان صادفا ذكرى وفاة السيدة المعصومة (شقيقة الإمام علي الرضا).
وستقام مراسم وداعه يوم الخميس في ثكنة الجيش رقم 1. أما التشييع، فسوف يقام اليوم الجمعة 28 نيسان/أبريل 2023 بعد صلاة الجمعة في طهران. وقد تمت دعوة عامة الشعب للمشاركة في هذا الحدث الوطني، من خلال إعلان كتب فيه: "إن والدَي الشهيد، وكذلك إخوته، رحلوا عن الدنيا إلى رحمة الله. لذا، ندعو جميع الناس وأهالي الشهداء إلى المشاركة في مراسم تشييع هذا الشهيد العزيز المقام".
لقد ذاد البطل المسيحي عن الجمهورية الإسلامية في وجه العدو المعتدي، حاضناً بسلاحه نظاماً حديث الولادة تمخضت عنه إرادة شعبٍ بأكمله بعد سنواتٍ من الجاهلية والفساد والتبعية، فكان جاني بت الآشوري جندياً خمينياً مقداماً لا يخاف.
وها هو اليوم يزف شهيداً بعد نحو 4 عقود من الفقد والانتظار، في عرس وطني على أيدي أبناء الوطن، حكومةً وشعباً، فأي صورةٍ للتعايش والتقارب والأخوة والوطنية أجمل من هذه!
إنه إطار من نوع آخر، ولكن الصورة ذاتها؛ صورة المقاومة والصمود، صورة الحق في وجه الباطل، صورة حب الوطن، صورة الوفاء والإيثار، صورة حب الله، فالله واحد...