الحرب على غزة: متلازمة عقدة الناجي تلاحق الفلسطينيين
أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية بالخصوص لم ينجوا حتى يقوموا بوصم أنفسهم بأنهم يعيشون حالة العجز، بل هم جزء من المعاناة، ولذلك هم الأجدر بالتحرّر من هذه الحالة عبر المشاركة الميدانية في هذا الصراع.
كيف لكوب قهوة، أو فسحة مع الأصدقاء، أو ضحكة عابرة وصغيرة، أو حتى أقلّ من ذلك في سبيل الرغبات الإنسانية، كسماع أغنية مثلاً، أن تمثّل نوعاً من الخيانة، وإحساساً بالذنب لا يحتمل أحياناً تجاه أولئك الذين لا تمنحهم الحرب مثل هذه الفرص؟
أمام مشهد الحرب في قطاع غزة، يعيش البعض شعوراً بالذنب غير المبرّر عبر سؤال وجودي يقول: "لماذا أنا أعيش بينما يعاني البعض"؟ ويُسبّب هذا السؤال شعوراً بالخزي والندم، وعدم الراحة، وهذا الشعور يُعرف باسم "متلازمة عقدة الذنب، أو متلازمة الناجي"، وهو مصطلح صاغه المحلل النفسي "وليام نيدرلند" خلال عمله مع الناجين من الهولوكوست، وتُعرف هذه المتلازمة بأنها: تأثير نابع عن وعي ذاتي، وشعور أخلاقي متمثّل في تقييم سلبي للذات، بالإضافة إلى كونه تجربة شعورية تابعة لحدوث صدمة أو كرب، أو رغبة في الأغلب، وبالتالي هو شعور الشخص بالذنب لأنه نجا من موقف يُهدّد الحياة بينما لم يَنْجُ الآخرون، وهو رد فعل شائع للأحداث الصادمة.
الشعور بالذنب ليس نابعاً من مجرّد الجلوس وحيداً، أو الرغبة المجردة فيه، وليس أيضاً نابعاً من التفكير، بل هو تابع لحدث صادم، أو صعب، إذ إنّ الشعور بالذنب يقتضي الإحساس بالمسؤولية نحو حدثٍ ما، أو أزمة ما أسفرت عن ناتج سلبي أو سيّئ على الصعيد النفسي.
وفي هذا السياق يقول عالم النفس فرويد: "إنّ الشعور بالذنب ينشأ من الخوف المنبعث من عقاب الوالدين عند ارتكاب شيء خاطئ في مراحل الطفولة، وتتعدّد التفاسير، وتختلف باختلاف محل التأويل".
انطلاقاً من المناقشة السابقة نقفز بشكلٍ سريع إلى ما يجري في قطاع غزة، إذ إنّ الحرب الدائرة هناك هي في صلب ما نتحدّث عنه، حيثُ إنّ شعور الذنب الجماعي الذي نشأ بسبب وجود هوية جماعية مشتركة يطفو على السطح تحديداً في الضفة الغربية، ويمكن ملامسة هذا الشعور خلال الحديث العابر مع الناس، ويشعر الجميع أنّ عليهم مقاسمة مصير الشعب الفلسطيني في غزة ما يجري، ويأتي هذا الشعور الجمعي من خلال الانتماء للقضية نفسها، وأكثر الوقوع تحت الاحتلال، أو أنّ مسبّب العنف هو الاحتلال، والاحتلال هنا عامل مشترك.
إذاً، تحت سطوة الضغط النفسي، والشعور بالعجز يتراوح الواقع الاجتماعي تحديداً ومن جديد في الضفة الغربية، وأحد أهم التعبيرات المتلازمة لهذا الشعور هو قول أهالي الضفة: " الدور علينا"، إذ بات واضحاً أنّ الخوف الكامن في السيكولوجية الجماهيرية بدأ يتحرّر من عنق الزجاجة، ومن زاوية ليست بعيدة عما سبق هناك من شعور لدى البعض بالسخط على الواقع أمام هول حالة العجز، وأصعب أنواع الشعور التي يعيشها البعض، هو الإدراك لأهمية الوقوف مع الشعب الفلسطيني في غزة، ولكن سطوة العجز على الروح تُسبّب عدم القيام بأي شيء، وعلى حد وصف أحدهم في هذا الاتجاه، قوله: "الجميع يُريد الوطن، ولكن القليل من يُضحّي".
في السياق، تُؤثّر القضية الفلسطينية على الحياة اليومية للفلسطينيين تحديداً منذ عقود، وأحد أهم هذه التأثيرات هو الجانب النفسي المصاحب لجرائم الاحتلال، إذ إنّ الشعور بعدم القدرة على تقديم المساعدة لمن يُعاني من الاحتلال، وتحقيق العدالة والأمن والسلامة لهؤلاء يُفاقم المشاعر، ويُسبّب هذا النوع من الضغط اضطراباً على الصعيد العاطفي.
والأهم من كلّ ذلك هو نظرة سلبية تجاه الذات، وتدنّي احترام الذات أيضاً، بالإضافة إلى أسئلة يطرحها الفلسطيني على نفسه مثل: "شو ممكن إعمل"؟ و"يا ريت بمتلك أشياء بقدر أقدمها..."؟ وبطبيعة الحال عدم وجود أجوبة عن هذه الأسئلة، أو أكثر في العمق عدم البحث عن الإجابة يُسبّب الإرهاق، والضغط النفسي الذي يتراكم يوماً بعد يوم مسبّباً عقدة للذات.
في صلب ما سبق، يبقى السؤال: "كيف يُمكن السيطرة على هذه العقدة"؟، وبشكلٍ واضح لستُ معالجاً نفسياً حتى أستطيع تقديم المساعدة، ولكن، لقد لمست ثلاثة أنواع من الناس فيما يخص ما يحدث في غزة، وأول نوع أولئك الذين استطاعوا التكيّف مع الواقع عبر القول: "ما باليد حيله"، أما النوع الثاني فأولئك الذين تمكّنوا من الهروب من الواقع بشكلٍ واضح عبر القول: "ليس لي علاقة"، أما النوع الثالث فهم الذين انخرطوا في الواقع مُعتبرين أنهم جزء من القضية، وقرّروا المشاركة بأي طريقة، ومنهم من يقبع في السجن الآن، ومنهم في القبر. وبحسب ملاحظتي كان النوع الثالث هو الأكثر تحرّراً من "عقدة الناجي"، بل هم الأكثر قدرة على عدم السقوط في فخ الاغتراب عن القضية الفلسطينية.
انطلاقاً ممّا سبق، بات واضحاً أنّ تحديد الموقف من القضية يحتاج إلى عملية الحسم بشكلٍ سريع، وبدلاً من الغرق في الشعور بالذنب، ووصم أنفسنا بحالة العجز، يجب أن يقف كلٌّ منا في خندقه، وأكثر أن يبرع كلّ منّا فيما يفعله لصالح القضية الفلسطينية، وألّا يُقلّل أحد من أي خطوة مهما كانت صغيرة يمكن تقديمها لصالح الشعب الفلسطيني في غزة. وهنا وعلى سبيل المثال لا الحصر، تمكّنت مجموعة من الطلاب في أميركا من قلب المعادلة على صعيد الرأي العالمي رأساً على عقب.
أخيراً وليس آخراً، أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية بالخصوص لم ينجوا حتى يقوموا بوصم أنفسهم بأنهم يعيشون حالة العجز، بل هم جزء من المعاناة، ولذلك هم الأجدر بالتحرّر من هذه الحالة عبر المشاركة الميدانية في هذا الصراع، إذ إنّ القضية واحدة، والمجرم واحد، وهو الاحتلال. وعلى الصعيد النفسي يجب أنّ يتم إسقاط الغضب، أو العجز، أو القهر...، نحو مسبّب العنف الأساسي بدلاً من إسقاطه على الآخرين، أو حتى على الذات عبر الوقوع في فخ "عقدة الناجي".