التّحييد والتّسلّل: آلية استقطاب المنظمات المدنية
بناءً على هذا التموضع والهوية الشخصية للمجتمع المدني ومنظماته، تتشكل إمكانية القيام بعمليات الاختراق والتسلل عن طريق استخدام اللغة غير المباشرة.
تعمل منظمات المجتمع المدني بطريقة تختلف عن الأحزاب السياسية في استقطاب المنتسبين والجمهور على حد سواء، ويعتبر بعض الباحثين أنَّ المنظمات التي تتحرك تحت شعار المجتمع المدني يُنظر إليها بطرق مختلفة، تبعاً لزاوية النظر إلى مفهوم المجتمع المدني؛ فمرة نعرّفه بأنّه نمط في الحركة الاجتماعية، أو مساحة أو ساحة متّصلة، لكنها منفصلة عن الاقتصاد والدولة والمساحة الشخصية، أو مشروع حالم.
ولتشخيص هذا الاختلاف وفهم خصوصية برامج الاستقطاب لدى هذه المنظمات، نعود إلى المنطلق التاريخي لهذه الظاهرة وتداول هذه المفردة لتوصيفها؛ فخلال عصر النهضة، تمَّ إطلاق هذا المفهوم ليعبّر عن هامش ضمن النظام السياسي لحركة اجتماعية مستقلّة ومتحررة من النظام السياسي الأحادي الوجهة، وتحديداً الملكيات. وقد استخدمت بعض النخب هذا العنوان لتقدم نفسها كحالة مختلفة عن النظام وفكرة جديدة قائمة على أساس التنظيم الذاتي للعناصر.
مع ظهور التيار النيوليبرالي الداعي إلى تخفيف التزامات الدولة بالرعاية الاجتماعية، بدأ استخدام هذا المفهوم ليعطي المشروعية لمجموعة المنظمات التي مولتها الدول الأوروبية الغربية ورعتها لتكون بديلاً منافساً للاتجاه الماركسي الذي كان يدعو إلى دولة رعائية كاملة.
تم نشر هذه المنظمات بدلاً من إقامة دولة الرعاية، ولإفراغ المشروع الماركسي من محتواه، من دون القيام بتعديل في البنية الاقتصادية الكلية، إنما في مستويات جزئية حصراً (مايكرو إيكونومي).
ولاحقاً، مع غورباتشوف، انتقلت المنظمات إلى الحالة الهجومية، فمع بداية البيريسترويكا وبدء الحركات القومية الانفصالية عن الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية، بدأ يستخدم المجتمع المدني كقوة تغيير ضد النظام السياسي والحزب الحاكم. وفي مراحل متقدمة، بعد الحرب الباردة في أوروبا، أصبح المجتمع المدني يحمل شعارات ضد الرأسمالية والعولمة.
إعادة الاستنبات
هذه التجربة تم استنباتها في البيئة الأوروبية، وتم نقلها وزرعها في البيئة الواقعة تحت ظل الهيمنة الغربية في دول العالم الثالث (كما يسميها الغرب المستعلي). لكن شروط إسقاط المفهوم وتطبيقاته الواقعية تختلف بشكل كبير؛ ففي حال وجود دولة رافضة للهيمنة، يصعب أن تخترق المنظمات البيئة الداخلية في حال وجود قوانين مانعة لتأسيس جمعيات تمول من الخارج، لكن في حال مواجهة أحزاب معادية، يتم فرض حظر أو تفعيل برامج تجفيف الموارد، ومن ثم يتم إطلاق المنظمات لاستيعاب التسرب المفترض حصوله من تلك الأحزاب.
أما في حالة وجود نظام سياسي تابع يعاني أزمات تتهدد استمراره، فإن الاختراق الدولي الاجتماعي يوفر قدرة الاتصال المباشر بالميدان الجماهيري، تحسباً لسقوط النظام وفقدانه السيطرة على الأرض. أما في حال وجود ساحة مضطربة ونظام سياسي منقسم وغير موحد في موقفه من الهيمنة، مثل لبنان، فإن هذه المنظمات تعمل في اتجاه حسم ولاء الدولة.
يتحرَّك هذا النموذج على خلفية اقتصادية، وليس فقط تحت تصنيف سياسي، فعندما تضعف الدولة، من خلال برامج صندوق النقد الدولي، تدخل المنظمات لتشكل بديلاً عن دولة الرعاية، فتستطيع أن تكون بديلاً سياسياً من الانتماء إلى الدولة ومن الأحزاب التي تشارك في الحياة السياسية، أو بديلاً معيشياً في تقديم المساعدة والخدمات والتوظيف لفئات مختلفة، وبشكل متفاوت.
وتشير بعض التنظيرات إلى أنه، وبعد تفكك الصلات بين الدولة والمجتمع في العالم العربي بعد "الربيع العربي"، أصبح للمنظمات دور تقديم البديل الهوياتي. وبدلاً من إقامة مشروع سياسي وطني شامل، يتم إقامة مجموعة مشاريع محلية صغيرة ذات شعارات متقاربة تقوم بعمليات اتصال في بيئة ضيقة ومباشرة، وتستطيع تقديم المساعدات بشكل مباشر.
الهوية الشخصية
يشكل التموضع السياسي والاقتصادي الإطار التأسيسي للاستقطاب، إذ يحدد المجال الذي يمنح المجتمع المدني القدرة على جذب الأفراد، لكن ما الهوية الخاصة في هذا المجال؟ وما الخصائص الذاتية للمجتمع المدني؟
يعدد المتخصصون مجموعة من العناصر التي تشكّل شخصية المجتمع المدني: لديه اتجاه نحو عدم النزاع والتنازل والتفهم العمومي، ويؤكّد الحرية الفردية والتنظيم الاجتماعي الذاتي، ويعترف بالتعددية والاختلاف، ويعمل بشكل غير عنفي ومسالم (مع استثناءات موضعية)، ويعمل على قضايا عمومية نسبياً، حتى لو اختلف الفاعلون ضمنه حول تحديدها.
تتضح وفق هذه الخصائص/ العوامل ميزة أساسية عن الأحزاب السياسية، تعطي المجتمع المدني مساحته الخاصة للاستقطاب، والتي تسمح له باستدراج المؤيدين للأحزاب نحو تجربة مختلفة. في حالة حركات التحرر، يمكن لهذه لمنظمات أن تحمل شعارات وطنية، حتى في بعض الحالات، لكن مع الإحالة على العمل السلمي، تعمل لتفكيك البنية الاجتماعية لحركات المقاومة، وتحولها إلى جماعات غير عنفية ومتفرقة وغير فاعلة.
مراحل الاستقطاب
بناءً على هذا التموضع والهوية الشخصية للمجتمع المدني ومنظماته، تتشكل إمكانية القيام بعمليات الاختراق والتسلل عن طريق استخدام اللغة غير المباشرة. هذه المنظمات لا تقدم نفسها كحالة حزبية وفكرة نقيضة للماركسية أو الدولة الراعية أو الأحزاب السياسية، بل حالة غامضة متعددة متهربة متنوعة وحيادية، وليست جهة سياسية، بحيث تستطيع أن تستقطب تنوعاً كبيراً وتخترق بيئات متعددة، من دون أن يتمكن المتضررون من تشخيصها ومحاسبتها، نظراً إلى حالة الفوضى وانعدام المسؤولية التي تتميز بها.
عملية الاختراق والتسلل نحو الخطوط الاجتماعية الخلفية للأحزاب السياسية أو البيئات الحاضنة للأنظمة السياسية، تمر بخمس مراحل أساسية تستفيد من الهوية الخاصة للمجتمع المدني والمساحة المتاحة له للاستقطاب. هذه المراحل هي: الجذب، والتحييد، والتأطير، والعزل، والتوظيف.
وفي تفصيلها، الجذب هو تقديم البدائل الشكلية والخطابية والدعائية المناسبة للظرف السياسي المعيشي. التحييد هو إخراج المستهدف من دائرة الانتماء والدعم الاجتماعي المعنوي والمعرفي. التأطير هو ارتحاله إلى الجماعة الجديدة المكونة من المحيدين، إذ يتعرض لإعادة التشكيل المعرفي. العزل: من خلال إيجاد الجدالات الحادة مع البيئة الاجتماعية، يتم بناء الهوية الجديدة. التوظيف هو تحريك الجماعات المنضوية تحت الإطار، من خلال منظومة الاتصال غير المباشر.
دوافع الانتساب
بالنسبة إلى الشرائح التي يستهدفها الاستقطاب المدني، تستهدف المنظمات المدنية الفئات المهمّشة في النظام السياسي أو الاقتصادي، والفاعلين من طبقات وسطى أو عليا لم تجد مكاناً في النظام، وهم مديرون وموظفون في المجتمع المدني يستفيدون من تمويل الاختراق الدولي الاجتماعي، والمتأثرين من مؤيدين ومناصرين للخطاب المدني، والذين تقوم المنظمات بتعريفهم على أنهم "ضحايا ومتضررون" من النظام السياسي الذي خضع لصندوق النقد الدولي أو تعرض للحصار الأميركي من عموم الجمهور.
بالنسبة إلى المديرين، تعطيهم صلتهم بالممول الدولي وضعية خاصة، فهم أصبحوا في دائرة الطموح السياسي، ودوافعهم تعود إلى هذا الأساس. أما الموظفون العاملون مقابل بدل مالي، فهم ينتسبون إلى تلك المنظمات التي توفر مرتبات عالية مقارنة بمعيشة الدول الفقيرة، وذلك مقابل مجهود غير متكافئ مع البدل المادي.
أما الناشطون الّذين يتبنون برامج تلك المنظمات بلا مقابل، ويعملون لتعويمها ونشرها، فهم يتحركون على خلفيات عدة، منها:
الدور الاجتماعي: تقدّم المنظمات للشباب الطامحين إلى الحضور والمشاركة الاجتماعية مساحة خارج النظام الاجتماعي القائم، بحيث يستطيع تحقيق أهداف الدول الداعمة.
الحداثة والتغرب: الشباب المتأثر بفكرة التفوق الغربي يجد في هذه المنظمات مساحة اتصال بالغرب وانتمائه إلى الحضارة المتفوقة، بعيداً عن مجتمعه.
المهارات والقدرات: الشباب الطموح يحصل على قدرات تطبيقية وعملانية تطور شخصيته الاجتماعية، كما يحصل على فرص عمل مستقبلية.
العلاقات الدولية: تدمج الشباب في مجالات تتيح له نيل الاعتراف في مجتمعات أخرى، وصولاً إلى الاتصال المباشر بالدولة الممولة.
تنجح عملية الاستنبات عادةً في ظرف عدم وجود حالة سياسية حقيقية ومنتجة. حينها، يمكن زرع قيادات مصنّعة على عجل، ومجتثة من البنيات الاجتماعية، ويتم العمل من خلال الأدوات الإعلامية على تقديمها للجمهور كبديل سياسي.
من الناحية العملية، تبقى هذه الحالة على قيد الحياة مع وجود التمويل الخارجي. ومع فقدانه، تخسر الكادر الإداري برمّته، وتتحوَّل إلى رفات سياسي، نظراً إلى عدم امتلاكها الصّلات والجذور التاريخية في البنية الاجتماعية.