البيئة الحاضنة للعدوان الصهيوني المستمر
معجزات الفداء الفلسطيني أمام الصهاينة تسطر كل يوم صفحة جديدة من ملاحم البطولة، وأن حالة عدم التوازن في القوة تناظرها في الجهة المقابلة عدم توازن أيضاً، ولكن لمصلحتنا في ميزان.
شن الكيان الصهيوني حروباً كبرى عدة على الفلسطينيين في قطاع غزة، وذلك استناداً إلى قناعة مترسخة لدى هؤلاء، فحواها أن الصراع مع الشعب الفلسطيني صراع وجودي لا حل له، وهو ما أعلنه صراحة في سنة 2014 رئيس الحكومة الصهيوني الليكودي بنيامين نتنياهو في حوار مغلق مع كتّاب صهاينة نظّمته صحيفة "هآرتس"، وذلك عندما سأله الكاتب إيتغار كيريت عن الحل الذي يتصوّره للصراع في الشرق الأوسط، فقدّم نتنياهو جواباً طويلاً، تطرق فيه إلى التهديد النووي الإيراني وإلى حالة عدم الاستقرار التي يواجهها العديد من الأنظمة في المنطقة، ولكن أمام إلحاح الكاتب للحصول على رد واضح منه، اعترف نتنياهو – كما كتب كيريت – بأنه لن يفعل شيئاً لحل هذا النزاع، لأنه نزاع لا يمكن حله.
وبغية فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، سعت الحكومات الصهيونية المتتابعة لكسر إرادة الشعب في المقاومة، ومنعه من الاستمرار في نضاله من أجل حقوقه الوطنية، وهو هدف لم تتخل عنه الحركة الصهيونية في الواقع منذ نكبة 1948، فخلال عملية "السور الواقي" صرح رئيس هيئة أركان "الجيش" الصهيوني آنذاك الجنرال موشيه يعلون بأن المطلوب هو كيّ وعي الشعب الفلسطيني، كي يعرف الفلسطينيون في أعماق وعيهم أنهم شعب مهزوم على حد قوله، وفي هذا الشأن، يقول الضابط السابق في "الجيش" الصهيوني يهودا شاول، وهو كان شارك في العملية المذكورة *.. في إطار هذا الردع تعاملنا مع كل فلسطيني على أنه عدو، وأنه هدف مشروع كي نهاجمه، وكنا أحياناً نردع الإرهاب من خلال فرض عقاب جماعي على فلسطينيين أبرياء..* وهكذا صار تعبير "كيّ وعي الفلسطينيين" يعني في الدعاية الصهيونية كسر إرادة المقاومة لديهم، وإلحاق هزيمة معنوية دائمة بهم، من خلال نشر ثقافة الرعب والخوف في صفوفهم وإشعارهم بالعجز الدائم.
أما الوسيلة التي استند إليها "الجيش" الصهيوني لتحقيق هذا الهدف فراحت تتبلور شيئاً فشيئاً منذ العدوان الصهيوني على لبنان 2006، لتتخذ شكل عقيدة عسكرية قامت على أساس توجيه قوة تدميرية هائلة على مواقع عدوهم تكبده خسائر بشرية ومادية كبيرة جداً، وذلك استناداً إلى تجربة الدمار الهائل الذي ألحقته آلة الحرب الصهيونية في تلك السنة في الضاحية الجنوبية في بيروت، والواقع أن هذه العقيدة التي صارت تدعى "عقيدة الضاحية" ليست جديدة، وإنما هي قديمة قدم بدايات تنفيذ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، الذي يهدف إلى تدمير جميع مقومات الشعب الفلسطيني المجتمعية: قراه ومدنه وبيوته وبناه التحتية واقتصاده وثقافته، وهو ما أطلق عليه بعض الناشطين في مجال حقوق الإنسان، منذ أعوام مصطلح sociocide الذي يمكن أن نعرفه بالإبادة المجتمعية.
إن هذه العقيدة المجرمة، أخذت مسار العادة عندما ترتبط بفلسطين، فها هو الكيان الصهيوني اليوم ومنذ انفجار الطوفان لم يوفر أي جهد تدميري إلا وضخه على الأراضي الفلسطينية وكل ما يرتبط بفلسطين، مراعياً شكل القتل وحجمه المناسب حسب الجغرافيا.
وبخصوص الطوفان الذي تخللته هدنة انتهت مطلع الشهر الأخير في 2023، فقد عاد الكيان الصهيوني بسياسته التدميرية نفسها قبل الهدنة مخلفاً عدداً من المجازر، ورغم ازدياد وتيرة الإبادة ووضوح أطراف الحق والباطل والجلاد والضحية، فإن الكيان الصهيوني ومن دون اكتراث لأي شيء يستمر بما يفعل، وبهذا فإن أول سؤال يسأل لماذا لا يتوقف الكيان عن الحرب؟
للإجابة عن هذا السؤال مستويات عدة، نعزل منها المعطى الفلسطيني على اعتبار أنه في حالة المواجهة المباشرة، وبالتالي يحاول أن يسخر طاقته لرد العدوان، حتى وإن كان البيت الفلسطيني الداخلي بحاجة إلى ترميم.
إذاً، يمكن الإجابة بتحليل مستويات لها طابع تدريجي من حيث المسافة مع الاعتداء على الشعب الفلسطيني، لعل أولها هو العدو وما يفكر فيه، وثانيها هو المحيط العربي وكيفية تعاطيه مع العدوان، وثالثها هو الارتباط بين الكيان الصهيوني والدول الإمبريالية.
الحرب في العقيدة والسياسة
بعد قرار الصهاينة بتجاوز أسلوب المشروعات الخيرية الصغيرة النطاق لتوطين اليهود في فلسطين، لم يكن أمامهم خيار سوى العسكرة، وكما كتب مناحم بيغن في مذكراته عن الصراع ما قبل إقامة "الدولة" بعنوان "الثورة": *نحن نحارب، نحن إذن موجودون*، وكان الاستيطان الرائد في الأرض هو نفسه نشاط هجومي عسكري، حيث استهدف الاستيلاء على الأرض من سكانها الذين عاشوا عليها طوال أجيال.
ووفق ما أورد الصحفي الصهيوني عاموس إيلون، جاء وصف بن زفي (الذي أصبح ثاني رئيس لإسرائيل) لطريقة بناء الكيان الصهيوني:.. أن الأمة لن يتحقق خلاصها بالكلام، وأن البلد لن يعاد بناؤه بالخطب، لقد سقطت يهودا بالدم والنار، وستنهض مرة ثانية بالدم والنار..
إن هذا التأسيس الفكري السياسي الذي استعرضنا جزءاً يسيراً من كيفية إدارة الفلسفة الصهيونية في التعاطي مع فلسطين وأهلها، يتكامل مع بعض المعتقدات الدينية التي يتبنونها، ففي ندوة عقدتها جامعة "تل أبيب" في 18 آب/أغسطس 1974 حول موضوع العنف والدفاع في التاريخ اليهودي والحياة المعاصرة، قال البروفيسور اليهودي سالو بارون إن التوراة (العهد القديم) يروي بأن اليهود بعد خروجهم من مصر تلقوا أمراً من "رب الأرباب" بإبادة سكان كنعان (فلسطين) كافة.
وضع عربي مأزوم
أما العامل الثاني الذي أفضى إلى استمرار الكيان الصهيوني في إجرامه فتمثل في أن النكبة الفلسطينية ما عادت هي الوحيدة التي يعاني العرب من جراء نتائجها، بعد أن راحت النكبات تتوالى عليهم الواحدة تلو الأخرى.
ويتطرق قسطنطين زريق في مقال نشره في كانون الثاني/ يناير 1991، تعليقاً على حرب الخليج إلى هذا العامل فيكتب: " في الأيام الأولى بعد حرب 1948 وقيام إسرائيل وتهجير العرب الفلسطينيين والعجز الذي بدا من الدول العربية وجيوشها، نفثت عما كان يجول في نفسي من خواطر مقلقة بكتيب دعوته: معنى النكبة... ثم وقعت نكبة 1967 التالية – لا النكسة كما أراد تصويرها بعض حكام العرب ومفكريهم – فوجدت نفسي مدفوعاً إلى إعداد كتيب آخر دعوته: معنى النكبة مجدداً، جريت فيه على مثال الكتيب الأول في محاولة تحليل الأسباب وتقويم النتائج واستخلاص العبر. وقد جاءت الآن هذه الحرب المشتعلة لتثير في نفسي التساؤل عما إذا كان يجب متابعة الجهدين السابقين بتحليل مشابه لهما يدعى: معنى النكبة مثلثاً".
والواقع أن المرء إذا رصد مسيرتنا في العقود الأخيرة وجد مناسبات عدة لتسجيل نكبات أخرى وتحليلها، إذ إن هذه النوائب ليست محصورة في الحروب وهزائمها وخسائرها، بل تمتد إلى غيرها من نواحي الحياة، فثمة نكبات في شؤون الحكم وأخرى في العلاقات الخارجية (التطبيع مثلاً)، وأيضاً ما له علاقة بالسياسات الاقتصادية الخاطئة المهدرة للموارد والمعيقة للنهضة، ونكبات لها علاقة بحياكة مؤامرات خارجية لزعزعة الأمن والاستقرار في الدول السيدة، ونكبات في الخطط الاجتماعية والتعليمية التي تثقل الأعباء بدلاً من تخفيفها، وفي استشراء الفساد في كثير من وجوه الحياة الخاصة والعامة.
مجتمع دولي مرتبط عضوياً مع الكيان
قامت الفكرة الصهيونية كأنها نبتة أوروبية خالصة، في تربة أوروبا المليئة بالتناقضات القاسية في أواخر القرن التاسع عشر، ولقد نما هذا النبت لكي يمد حراب أشواكه في النهاية إلى جسد الشرق العربي ويسقط عليه كل ثماره المرة، ولم يكن ذلك ليحدث لولا التقاء الفكرة الصهيونية عندئذ بالظاهرة الإمبريالية.
وفي منتصف القرن العشرين في عالم تسوده الرأسمالية ويشهد بدايات الاشتراكية، قام اليهود الأوروبيون تحت شعار الهجرة الجماعية المنظمة بغزو فلسطين وإقامة دولة "إسرائيل" على ما استولوا عليه من أراضيها، وكان ذلك باسم تحقيق الفكرة الصهيونية، ومن أجل ذلك نظمت الهجرة إلى فلسطين، ومن أجل ذلك صدر وعد بلفور عام 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ومن أجل ذلك صرح الرئيس الأميركي ويلسون في 1918 بقوله: "أعتقد أن الأمم الحليفة قررت وضع حجر الأساس للدولة اليهودية في فلسطين بتأييد تام من حكومتنا وشعبنا"، ومن أجل ذلك أصدرت الأمم المتحدة في عام 1947 قرارها بتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها.
بالإضافة إلى ما سبق، لا يمكن أن نغفل عن الدعم الاقتصادي المطلق لبناء الكيان الصهيوني، وبالتالي وإذا ما تركنا جانباً حسابات السياسة الداخلية لكل بلد رأسمالي على حدة، فلسوف نجد أن العالم الرأسمالي مدفوع لبناء وحماية "إسرائيل" باعتبارين لا ينفصم أحدهما عن الآخر وهما: أولاً زرع "إسرائيل" الصهيونية وتطوير اقتصادها وعسكرتها كنموذج للاستعمار الاستيطاني في العصر الحديث لصالح الصهيونية العالمية، ثانياً استخدام "إسرائيل" هذه في خدمة الأهداف الاستراتيجية للرأسمالية العالمية في المنطقة العربية.
وقد ذكرنا في مقال سابق بعنوان " لماذا تدعم الدول الغربية إسرائيل (حقائق تاريخية)" على الميادين نت بشيء من التفصيل تلك العلاقة العضوية بين الكيان الصهيوني ومشغليه الغربيين.
ختاماً، فإن معجزات الفداء الفلسطيني أمام الصهاينة تسطر كل يوم صفحة جديدة من ملاحم البطولة، وأن حالة عدم التوازن في القوة تناظرها في الجهة المقابلة عدم توازن أيضاً، ولكن لمصلحتنا في ميزان.