إبادة غزة أم إبادة الفكر الغربي وزعزعة النظام العالمي؟
ما زال المشاهد الغربي يراقب أحداث غزة بصدمة من هول المجازر الجماعية، ولكن الصدمة الكبيرة والتاريخية هي مواقف الأنظمة الأوروبية والغربية الساكتة، لا بل المؤيدة، وبعضها الداعمة بالمواقف والسلاح للاستمرار الإبادة.
اليوم، أُعلن عن وفاة فلسطينيين بسبب الجوع والحصار المؤدي إلى مجاعة حقيقية ونحن على مشارف اقتحام رفح، المتنفس الضئيل، ولكنه الوحيد، لأهالي غزة، ونحن على مشارف اكتمال الشهر الخامس من حرب الإبادة على قطاع غزة في فلسطين، ونحن على مشارف اكتمال الشهر الخامس من نزيف الأعمار وتمزيق الأجساد ودمار البيوت والبنى الفوقية والتحتية لموارد العيش في غزة، ونحن على مشارف اكتمال الشهر الخامس لأطول بث مباشر يتابعه أكبر عدد من المشاهدين من كل دول العالم طيلة ما يقارب 150 يوماً.
هذه المشاهد المباشرة تشاهدها أمهات وآباء وأطفال وطلاب مدارس وجامعات وأساتذة حقوق دولية وإنسانية، كما يشاهدها نواب ووزراء وحكومات ومجالس شعوب وبرلمانات أوروبية وعربية وغربية، وتشاهدها منظمات إقليمية ودولية ومنظمات غير حكومية مهمتها التنمية البشرية والدفاع عن حقوق الفرد في مجتمعه والحريات، وتشاهدها منظمة الأمم المتحدة بأعضائها الـ193 دولة عالمية التي أُسست بغرض الحفاظ على الأمن الجماعي وتجنيب شعوب العالم ويلات الحروب ومآسيها، كما جاء في ديباجة ومقدمة ميثاق الأمم المتحدة، ويشاهدها مجلس الأمن الدولي بأعضائه الخمسة دائمي العضوية والعشرة غير الدائمين، وهو الذي أُسس كأداة قوة لهيئة الأمم المتحدة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين.
إن هذه الشعوب العالمية منقسمة إلى قسمين: القسم الأول هو القسم المصدِّر للثقافة، والآخر هو القسم المستورد لها، فما هي هذه الثقافة التي تصدر عن الدول الغربية، والتي تأسس عليها النظام العالمي عام 1945 بعد مؤتمر سان فرانسيسكو الذي أنشأ هيئة الأمم المتحدة عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، ووضع حداً لهمجية العدوان والقتل واعتماد قوانين تقنن الحروب والنزاعات، كالقانون الدولي الإنساني، ومحاكم دولية تلجم مرتكبي الجرائم من شخصيات دولية طبيعية وغير طبيعية، كمحكمة العدل الدولية التي تعتبر الأداة القضائية لهيئة الأمم المتحدة، إضافة إلى المحكمة الجنائية الدولية الدائمة!
الكل يسأل عن هذه الثقافة التي يصدرها المجتمع الغربي إلى المجتمع الشرقي والعربي والدول النامية ودول عالم الجنوب. لقد مرت أوروبا بتقلبات نظام دول عبر حروب تتبعها معاهدات، أهمها معاهدة ويست فاليا 1648 التي وضعت حداً لحرب 30 عاماً اعتبرت حرباً دينية أوروبية، وبالتالي أنشأت الدولة القومية في أوروبا على حساب الإمبراطوريات الدينية، ثم الدولة الحديثة ودولة المواطنة، لتنهي زمناً من الدولة القومية حاملة أفكار الثورة الفرنسية من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية لحين إنشاء هيئة الأمم المتحدة لتنبذ العنصرية وتطالب بالمساواة بين الشعوب والدول، بما فيها الحق المشروع للشعوب بتقرير مصيرها وحق الدفاع عن النفس وتحريم الإبادة الجماعية والقتل العنصري وغيره من مبادئ القانون الدولي.
أصبحت المؤسسات السياسية في أوروبا وأميركا (رئاسة، برلمان، حكومة) تنتج عبر الشعوب، فالمواطن هو الذي يحدد هوية السلطة السياسية التي تحكمه، وهذا مبدأ اساسي من مبادئ الديمقراطية، فأصبحت الأحزاب المتنافسة على السلطة تتبارى فيما بينها وفقاً لمعايير الحريات والديمقراطية والعدالة والمساواة، إلى أن وصلت بهم التنازلات حتى عن القضايا الأخلاقية الفطرية للبشر بحجة الإيمان بالحرية الفردية المطلقة.
أما الأشخاص أو أي حزب يتأخر عن غيره بالإفراط في هذه المبادئ العامة الحديثة، فإنه يعرّض نفسه للخسارة في أي انتخابات قادمة من قبل الشعوب التي تمت برمجتها على العدالة والمساواة إلى أبعد حدود، ليس في دولها فحسب، بل في كل العالم أيضاً.
وما زال هذا المشاهد الغربي اليوم في عام 2024 يراقب أحداث غزة بصدمة من هول الأحداث والمجازر الجماعية، ولكن الصدمة الكبيرة والتاريخية هي مواقف الأنظمة الأوروبية والغربية الساكتة، لا بل المؤيدة، وبعضها الداعمة بالمواقف والسلاح للاستمرار بإبادة أهل غزة، مثل فرنسا وألمانيا وأميركا.
هذه الصدمة تعتبر صدمة التاريخ بالنسبة إلى الشعوب الغربية التي تتعالم مع حكامها على معايير حقوق الإنسان، وقد تجاوزت معه في السابق كل الحدود الدينية والقومية لأجله، وخلعت كل العقائد التي قد تعوق الحريات والتطور والحداثة، وذلك إيماناً بفكر حر مشترك، وإذ بها اليوم تشاهد المشهدين في وقت واحد مشهد المجازر في غزة ومشهد الحكام المؤيدة للمجازر في بلادهم، فبدأت تذهب لمعاملتهم بالقانون نفسه الذي أنجبهم، فبدأوا بممارسة حرية الرأي والتعبير في تظاهرات مستمرة في أنحاء أوروبا وأميركا، ليس آخرها التظاهرة المليونية في لندن الشهر الفائت، والاعتصام في هولندا - لاهاي أمام محكمة العدل الدولية مع مشهد تمثيلي يلخص المجازر والصمت الدولي تجاهه، وكذلك تحريك الدبلوماسية الفرنسية بوجه رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون ومطالبات النواب في الاتحاد الأوروبي والدول بالتحرك لإنقاذ الإنسان في غزة ومهاجمة الصحف اليومية والرأي العام.
كل هذه التحركات والاعتراض تعتبر محاسبة أولية للحاكم الغربي، ولكن المحاسبة الحقيقية ستكون في صندوق الاقتراع، فقد اعتاد المقترع الغربي المحاسبة في الصندوق وتبديل الحاكم الكاذب والفاسد بمن هو صادق ونزيه، فإن المنافسة بين السياسيين في أوروبا وأميركا على الرفض للعداوان المفرط في فلسطين ستبدل حتماً مواقف الدول تجاه القضية الفلسطينية، لأن الشعوب التي نشأت على أفكار المساواة والعدالة والحرية ستحاسب وتؤسس من جديد لحكام يصدق عليهم أنهم يعملون للمساواة والحرية والعدالة.
وهنا، نكون أمام واحد من 3 سيناريوهات، أولها انتصار النظام العالمي ومبادئه بفضل شعوبه، وذلك في حال وقفت الحرب نتيجة مواقف الدول، ولا سيما في مجلس الأمن الذي ما برح يصدر الفيتو على قرارات وقف العدوان، وذلك بفضل ضغط الشعوب المؤثرة في قرارات حكامها، والسيناريو الثاني استمرار الحرب مع استمرار تعنت الحاكم الأوروبي والأميركي تجاه موقف شعبه، ولكن بعمر قصير حده أي انتخابات قادمة، رئاسية كانت أم تشريعية، وذلك يحقق انتصار الشرعية الدولية، ولكن بهزيمة الحكام الحاليين وتبديلهم.
أما السيناريو الثالث، وهو الأعنف، أي استمرار الحرب واستمرار مواقف الحكام الغربيين وتزايد اصطداماتهم مع شعوبهم، ما سيؤدي إلى اضطرابات داخلية في أوروبا وأميركا قد تعوق عمليات انتخابية نزيهة وشفافة، فإما تتأجل وإما يتم العبث فيها بالنتائج، وهذا ما لا يحمد عقباه، الأمر الذي قد يؤدي إلى تطورات داخلية في الدول ستؤثر في تسريع عملية إبادة النظام العالمي الحديث، وخصوصاً أن أغلبية كبار العلماء والفلاسفة الغربيين اعترفوا بسقوط حضارة الغرب والأميركيين وسقوط إنسانيتهم علناً، وخصوصاً سقوط نظام القيم والأخلاق، وبالتالي فإن الغرب متجه إلى فوضى. وعليه، فإن النظام الدولي متجه إلى فوضى غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية .