أيّهما أقرب في لبنان.. الفوضى أم التسوية؟

السيّد نصر الله أراد التركيز على أميركا وربيبتها "إسرائيل" في تهديده لأنهما يمتلكان التأثير الأكبر على أي تسوية في لبنان أو المنطقة

  • أيّهما أقرب في لبنان.. الفوضى أم التسوية؟
    أيّهما أقرب في لبنان.. الفوضى أم التسوية؟

بدأ الحديث عن التسوية في لبنان منذ اللحظات الأولى لدخوله في مرحلة الفراغ الرئاسي في تشرين الأول/أكتوبر حيث كان واضحاً قبل نهاية عهد الرئيس ميشال عون بأن مؤشرات كثيرة تدل على أن الحل السياسي في لبنان الذي بمقدوره أن يضعه على سكّة الاستقرار، لن يكون سهلاً لأسباب عديدة. 

أولاً علينا أن نتفق جميعاً على أنّ أي محاولة لحلحلة الوضع السياسي الداخلي في لبنان يحتاج إلى مروحة من التقاطعات الإقليمية والدولية لكي تتكلّل بالنجاح. كما بات معلوماً، فإن الرؤية السعودية تجاه لبنان تبدّلت أكثر من مرة في الأعوام الماضية، حيث كان الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2017 تاريخاً مفصليّاً، ونقطة تحوّل في السياسة السعودية تجاه لبنان. 

ففي هذا اليوم قرّرت الرياض الانقلاب على التسوية الداخلية التي أوصلت الرئيس عون إلى سدّة الرئاسة بعد إبرام الأخير العديد من التفاهمات السياسية بمباركة خارجية ومن ضمنها السعودية في طبيعة الحال. حيث تم اعتقال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية سعد الحريري في الرياض وإجباره على الاستقالة من هناك في مشهد يحيطه الكثير من الغموض. 

قرار المملكة العربية السعودية في حينه لما يكن اعتباطياً، بل كان ضمن مخطط رسمه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ووافقت عليه إدارة ترامب آنذاك، وارتبط هذا الحدث بشكل مباشر أو غير مباشر بما حدث في اليوم نفسه من إطلاق أوّل صاروخ باليستي يمني على الرياض، ممّا كرّس فشل العملية العسكرية السعودية في اليمن ونقلها إلى مرحلة خطيرة فيما خص الأمن القومي السعودي بالتزامن مع إعلان محمد بن سلمان عن رؤية 2030 الاقتصادية. 

فبعد هذا التحوّل في السياسة الخارجية السعودية تجاه لبنان، وربط الملف اليمني باللبناني بشكل غير علني، لم تعد المملكة في وارد أي حل أو أي تسوية داخلية من دون أن تضمن في المقابل استقرار الوضع العسكري والأمني على حدودها الجنوبية. ولم يكن حدث استقالة الحريري من الرياض الوحيد الذي يعبّر عن قرار السعودية ربط الملفين ببعضهما البعض، بل أيضاً نستذكر هنا مطالبتها الوزير السابق جورج قرداحي بالاستقالة من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وذلك بسبب تصريح سابق لوزيره عن الحرب اليمنية. 

وهنا يعلم القاصي والداني بأن وصف القرداحي الحرب بالعبثية قبل أشهر من تشكيل الحكومة لم يكن السبب وراء قلب الطاولة في لبنان. بل أيضاً اليمن كانت السبب وراء التصعيد الجديد، بحيث كان أنصار الله يحرزون تقدّماً نوعياً في محافظة مأرب، وكان الغضب السعودي تجاه هذه الانتصارات لا بدّ أن يظهر في ساحة صراع مشتركة أخرى، كلبنان مثلاً.

إذاً، فإن موافقة السعودية على أي التسوية في لبنان، من شأنها أن تساهم في وقف النزيف الاقتصادي والانتقال به إلى مرحلة النهوض، تتوقّف عند الوضع العسكري والسياسي في اليمن. 

ماذا عن التقدير الفرنسي للوضع الراهن في لبنان؟

إنّ أغلب السياسات الخارجية الأوروبية بشكل عام والفرنسية على وجه الخصوص تجاه الشرق الأوسط تعتمد على ركيزتين أساسيتين، الأولى تتعلّق بالأمن الطاقويّ بعد اندلاع الحرب بين أوكرانيا وروسيا، حيث بات أي مصدر جديد للغاز الطبيعي على مقربة من القارة العجوز هو محط اهتمام أوروبي. أمّا الركيزة الثانية فمرتبطة بمنع أي موجات هجرة جماعية جديدة إلى أوروبا. فلبنان الذي يستقبل على أراضيه أكثر من مليون ونصف مليون نازح سوري ستصبح أي فوضى فيه أمراً في غاية الخطورة على أمن أوروبا من هذه الناحية. 

فإنّ تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان لا يصبّ في مصلحة فرنسا، لا بل الاستقرار في لبنان المنهك اقتصادياً يعد فرصة لها من الناحية الاستثمارية، وعينها دائماً على قطاعاته الحيوية خاصة تلك المتعلقة بالموانئ والطاقة.

أمّا الرؤية الأميركية، فهنا يصعب نوعاً ما توقّع ماهيتها، لأنّ واشنطن دائماً ما تنظر إلى لبنان من العين الإسرائيلية، وجلّ اهتمامها هو على الحدود اللبنانية الجنوبية. فبعد توقيع اتفاق الترسيم البحري بين لبنان والكيان الصهيوني بوساطة أميركية، وقبيل حصول الانتخابات النيابية الإسرائيلية التي استلم في إثرها نتنياهو مجدّداً سدّة الحكم، كان من المنطقي أن تتجه واشنطن أكثر إلى منطق الاستقرار في لبنان، ومحاولة فصل أزمته عن أزمات المنطقة، لهدف حماية الاستقرار على الحدود الجنوبية.  

إلّا أنّ عودة الجناح اليميني المتطرّف إلى الحكم في الكيان الصهيوني، الذي سبق وأن أبدى معارضته لاتفاقية الترسيم مع لبنان على لسان بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة العدو، كان له تأثير سلبي على سياسة واشنطن تجاه لبنان. وهنا نضع كلام السيد نصر الله في خطابه الأخير نهار الخميس الماضي، في سياق التحذير من هذا التبدّل في موقف واشنطن. حيث قال الأمين العام لحزب الله: "أحذّر من أي تسويف بشأن استخراج النفط من المياه ويجب إبلاغ الأميركيين بالابتعاد عن هذه المسألة"، وأضاف: " أقول للأميركيين إنهم إذا أرادوا زرع الفوضى في لبنان فـأنتم ستخسرون كل شيء". 

انطلاقًا ممّا سبق، فإن وضوح الرؤية الفرنسية تجاه لبنان يقابلها انتظار سعودي تجاه ما يمكن أن يحصل في اليمن على صعيد الحرب أو التسوية، لتبني بعدها موقفها تجاه لبنان، أو أنّها تحاول المساومة بين الساحتين لعلّها تستحصل على تنازل سبق وأن عجزت عن انتزاعه طوال سنين الحرب من قبل أنصار الله. 

كما أن الموقف الأميركي الذي يعتمد على التسويف والمماطلة لتحسين شروطه في التسوية المقبلة إن كان في لبنان أو على صعيد سوريا والمنطقة، يجعله يلجأ إلى المزيد من التصعيد والضغوط تجاه لبنان في المرحلة المقبلة. 

هذه المواقف المختلفة بين السعودية وفرنسا وأميركا والتي لم تتقاطع فيما بينها بعد في الساحة اللبنانية، يقابلها موقف موحّد من محور المقاومة، والذي يهدف إلى استقرار لبنان وتعزيز دوره السياسي والاقتصادي في المنطقة. فهنا يبدو واضحاً السبب الرئيسي وراء تأخير أي تسوية في لبنان إن كان في الملف الرئاسي أو الاقتصادي. 

بالمحصّلة فإنّ تحذير السيّد الذي وجّهه لواشنطن ولـ "إسرائيل" تحديداً، ملمّحاً بإمكانية استخدام الخيار العسكري لقلب الطاولة في المنطقة، من دون أن يذكر في تحذيره المملكة العربية السعودية بشكل مباشر. ممّا يعني أنّ السيّد نصر الله أراد التركيز على أميركا وربيبتها "إسرائيل" في تهديده لأنهما يمتلكان التأثير الأكبر على أي تسوية في لبنان أو المنطقة. وبما أنّ "إسرائيل" ومستقبلها الأمني والسياسي والاقتصادي هي نقطة ضعف المحور الغربي-العربي فكان لا بدّ من التركيز عليها ومحاولة استغلالها بأكبر قدر ممكن لانتزاع حقوق لبنان وإجبار هذا المحور كلّه على التنازل والإسراع في إيجاد حل يشمل لبنان على جميع الأصعدة.

أخيراً، إنّ الردّ الأميركي السعودي والفرنسي على رسالة السيّد نصر الله الأخيرة سيكون المحدّد الرئيسي لأي مسار سيسلكه الوضع في لبنان؛ الفوضى التي سيصعب التحكّم بها من الجميع والتي تدخل في تفاصيلها شياطين لا تعد ولا تحصى، أم الاستقرار المدعوم بتسوية داخلية تستحوذ على أكبر قدر ممكن من المباركات الإقليمية والدولية ممّا تسمح للبنان بلملمة جراحه ومحاولة النهوض من أزماته المعقّدة.