أين غزة من النظام العالميّ؟ (2)

بعد أن بدأ العالم الغربي يخرج من حالة الصدمة التي أصابته بعد الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، سارعت أقطاب ذلك الجزء المغرور من العالم إلى محاولة تدويل الحرب المندلعة.

  • الحرب على غزة.
    الحرب على غزة.

سيطر على توصيف المعركة الحاصلة في غزة ارتباك كبير حول ما إذا كان ذلك شأن محلي أو إقليمي، أم أنه قفزة فوق أسوار غزة لتصل أقدام المقاومين إلى العالم وليس فقط إلى غلاف غزة. ولكن لإعطاء عملية طوفان الأقصى معنى كاملاً، لا بدّ من البحث عن "الآلات" و"الآليات" التي استخدمت وتستخدم في هذه الحرب "الهجينة". لذلك، وربطاً بموضوع تشكّل النظام العالمي الجديد، وتأكيداً لفكرة تأثير فعل المقاومة في تأسيس ذلك النظام، برزت أوجه شبه بين عناصر استخدمت في مراحل مهمة شهدها النظام العالمي القديم منذ أوائل التسعينيات (أي بداية تشكّله بأحادية قطبية) حتى بداية انهياره منذ بداية الألفية الثانية.

تشابه في المصطلحات

بعد أن بدأ العالم الغربي يخرج من حالة الصدمة التي أصابته بعد الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، سارعت أقطاب ذلك الجزء المغرور من العالم إلى محاولة تدويل الحرب المندلعة، فأعلن البيت الأبيض تأييده للرواية الإسرائيلية فور صدورها، وأتى تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن ككلمة فصل في الاتجاه الذي ستتخذه واشنطن، فأدانت الأخيرة حماس على "قطعها رؤوس الأطفال"، أضف إلى ذلك اتهام بايدن للمقاومين باغتصاب نساء المستوطنين الذين أسروا.

ما سبق لم يكن مجرّد اتهام أطلق كرد فعل غفوي على ما اعتبره العرب عنفاً غير مسبوق مارسته المقاومة تجاه المستوطنين، بل كان ذلك تمهيداً لفرض مصطلح "الإرهاب" على المقاومة الفلسطينية، وبالتالي خلق تنظيم "قاعدة" جديد. في السياق ذاته، وتأسيساً لتلك الحملة تجاه فصائل المقاومة، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد أيام من طوفان الأقصى، دعمه فكرة تشكيل تحالف دولي لمحاربة حماس. 

هنا لا بدّ من التوقّف قليلاً عند هذا الإعلان المفصلي، فهذا التصريح يردّنا إلى بداية انتكاسة النظام العالمي القديم، وذلك بداية الألفية الثانية، وتحديداً في الـ 25 من أيلول/سبتمبر عام 2001، عندما أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، قائمة للمنظمات الإرهابية-كان ذلك بعد قيام تنظيم القاعدة بعملية صادمة في الـ 11 من أيلول/سبتمبر من العام نفسه-. في تلك الفترة كان لمصطلح الإرهاب دور أساسي في هيئة وحالة النظام العالمي. لكن عند النظر إلى تشابه أحداث تلك الفترة مع ما يحصل الآن، يجب الالتفات إلى تطوّر أحدث فرقاً بين شكل "الإرهاب" الذي تروّج له أميركا بين هاتين الفترتين، وذلك التطوّر مصدره أنّ المتضرّر من "الهجمة الإرهابية" هو الاحتلال الإسرائيلي.

من هنا تنبع خطورة وسم حماس بالإرهاب، فبخلاف التنظيمات التي أطلقت عليها واشنطن مصطلح الإرهاب في العقدين الأخيرين، تتميّز المقاومة الفلسطينية بتأثيرها على الاحتلال الإسرائيلي، على عكس المنظمات التي برزت في بعض الدول العربية والتي كانت تحرّكاتها تنعكس بالإيجاب على "إسرائيل". من هنا، يمكن تأكيد فكرة أن تحميل واشنطن حماس بعداً إرهابياً سيسمح لها بالانطلاق نحو التأثير بشكل كبير في الشرق الأوسط-نظراً إلى مكانة الاحتلال في قلب المنطقة-إن لم يكن حالياً، فمن المؤكد أن تستخدم تلك الذريعة في الفترات المقبلة في إثر التفرّغ للمنطقة بعد حلّ الأزمة في أوكرانيا ووضوح الرؤية تجاه الصين.

الاستخدام المتجدّد لسلاح الحصار

فرض على قطاع غزة حصار شامل منذ تسلّم حركة حماس الحكم فيه، فمنعت حركة الاستيراد والتصدير إلا بما يوافق الاحتلال عليه. رغم وضع الاحتلال لتلك القيود على القطاع إلا أنه كانت هناك انتقادات غربية شكلية تطلق بوجه الاحتلال للتخفيف عن غزة، لكن ما يختلف الآن عن هذا الحصار هو الدعم العلني والموافقة الأميركية. من هنا، بات واضحاً دخول واشنطن دائرة حصار غزة، وقد برز ذلك من خلال معارضة أميركا للهدنة في البداية، وقد برّر مسؤولون في أميركا ذلك بأن حدوث الهدنة سيمنح المقاومة الموارد التي تحتاجها للاستمرار في الحرب.

لم يكن فرض الحصار من الوسائل المشتركة التي استخدمتها أميركا في الفترتين الرئيسيتين اللتين نتحدّث عنهما، أي فترة بداية انهيار النظام العالمي القديم وتشكّل النظام العالمي الجديد. ومن هذا المنطلق ننتقل للحديث عن العقوبات، فقد بدأ الغرب عموماً وأميركا وبريطانيا بشكل خاص بفرض عقوبات على أفراد في المقاومة الفلسطينية، حيث أعلنت الخارجية الأميركية فرض عقوبات على القيادي في الجهاد الإسلامي "أكرم العجوري". إضافة إلى ذلك، بدأت واشنطن ولندن بتكرار عبارات يتهمون فيها إيران بتدريب وتمويل حماس والجهاد الإسلامي. 

وقد واكبت العقوبات "حياة" النظام العالمي القديم منذ تشكّله بداية تسعينيات القرن الماضي، وحتى في أهم أحداثه كاحتلال أفغانستان واجتياح العراق. لكن بالنظر إلى تلك الفترات الهامة، نلحظ وجود بعض السمات المشتركة، التي بدأت بالظهور بين العقوبات التي تفرض الآن بعد طوفان الأقصى، وتلك التي فرضت على تنظيم القاعدة والعراق في العقدين الماضيين.

ففي ذلك الوقت كانت تلك الجهتان آنفتا الذكر تقعان في صلب استراتيجية أميركا لإظهار سيطرتها على المنطقة والعالم، حيث أرادت واشنطن تسيير الأمور في العالم العربي والإسلامي بشكل يسمح لها بالتركيز على منافسيها من الدول الأوروبية بقيادة فرنسا وألمانيا، إضافة إلى منافستيها الأساسيتين، روسيا والصين.

إذاً السيناريو في غزة يتكرّر، ورغم بعض المتغيّرات التي تحصل إلا أن أوجه الشبه مع ما حصل سابقاً بارزة، فأميركا تريد الآن التركيز على منافسيها الرئيسيّين كروسيا والصين، وأيّ تزعزع في العالم، وخاصة في الشرق الأوسط، سيحول دون تحقيق واشنطن لأهدافها المعلنة في استراتيجيتها للأمن القومي الصادرة عام 2022، وقد تمّ تحديد الصين فيها أولاً، ومن بعدها روسيا كأكبر تهديدين يعرقلان محافظة واشنطن على استمرار قيادتها للعالم.