أشعر بالفخر لكوني يمنيّاً
وأنت تجول بين الحشود المليونية تلحظ في وجوه هذا الشعب بعامّته وخاصّته، بأطفاله وشبابه وشيوخه صورة مغايرة لهذه الأوهام التي تسكنك، وكأنهم يحتشدون في اليوم الأول من العدوان على غزة.
مع كلّ موعد متجدّد للخروج المليوني.. يؤكد اليمنيون خلاله أنّ حجم عزمهم وصبرهم واندفاعهم وطول نفسهم لا يزال مخزونه كبيراً وأكبر مما يتوقّعه الآخرون بكثير.
في كلّ جمعة، تتوارد في النفس خلجات الخوف من خفوت أعداد الحشود، أو من ظهور عوامل اليأس والإحباط على وجوه المحتشدين، وتلك سجية النفس البشرية مع طول المدة الزمنية وما يرافقها من العوامل التي يمكن أن يكون ارتدادها على النفس سلبياً، قد يقول قائل وماذا أفاد خروجنا؟ فالقتل ما زال مستمراً بتصاعد والهمجية لا تزال تفتك وتعربد وتتوعّد، والموقف الجمعي العربي لا يسهم في الضغط على هذا المشهد.
غير أنك وأنت تجول بين الحشود المليونية تلحظ في وجوه هذا الشعب بعامّته وخاصّته، بأطفاله وشبابه وشيوخه صورة مغايرة لهذه الأوهام التي تسكنك، وكأنهم يحتشدون في اليوم الأول من العدوان على غزة، تقرأ بوضوح أن هذه النفوس لم تخرج مرغمة أو تحت ضغط الموقف، لا تشعرك أنها تؤدي روتيناً وظيفياً كالتزام إداري، أو بكونها خرجت محاباة أو خوفاً، بل انغماساً في عمق المشهد رغم البعد المادي والجغرافي، معايشة نفسية وجسدية وقلبية وعقلية للحدث، وكأن غزة وفلسطين بقعة في صنعاء أو صعدة أو إب أو غيرها من بقاع اليمن، لها بأعراف القبيلة اليمنية أسلاف وأعراف.
قد يفاجئك كهل صادف وقوفه بالقرب منك وأنت تبادله أطراف الحديث ما بقلبه من ألم وقهر وعزم وشجاعة في آن واحد، ومن خلال حديثه تشعر أنه لم يفوّت حدثاً أو خبراً حدث خلال الأسبوع يتعلّق بفلسطين ومعركتها المقدّسة، تتغيّر ملامح وجهه وهو يصف لك الجرائم ويستعرض أمامك المواقف العربية والإسلامية، وما كان يجب أن يكون بدوافع الفطرة والدين والدم والإنسانية والقبيلة، ولا يفوته أن يشيد برجال الله من لبنان إلى العراق إلى إيران وعلى اختلاف فصائلهم ومذاهبهم ومسمّياتهم، على امتداد الجغرافيا المقاومة، لن تخطئ تقدير أبوية ومسؤولية هذا الشعب لكلّ الأمة وشعوره بأنها جزء منه مهما تباعدت.
والأهم من ذلك كلّه وأنت الذي تعتقد أن العامّة لا يعرفون أهمية التظاهرات بالقدر الكافي، أن تفاجأ بكمية الوعي التي تسكن هذا النموذج المصغّر لشعب بأكمله فيما يتعلّق بقيمة وأهمية هذه الحشود في ميدان المواجهة، أمام الله كموقف وبراءة وجهاد، وما يحمله هذا الخروج من رسائل وأبعاد دفاعية ونفسية متعدّدة الآثار على كيان العدو.
ليس بخفيّ أنّ المنهجية القرآنية الخالصة التي صدّرتها ثورة الشعب الفتية، إلى جانب كلمة القائد الشاب والمؤمن التي يلقيها على مسامع شعبه كلّ أسبوع، وكما كان لها الدافع الأكبر في خوض المواجهة العسكرية المباشرة مع العدو، كان لها الدور الكبير في تحفيز الدوافع الجمعية لهذه الملايين التي لا تعرف بعضها إلا في الساحات من دون تنسيق أو حملات "فيسبوكية" مسبّقة، يمثّل القائد بصدقه وحسن سمعته التي خبرها هذا الشعب خلال السنوات العشر "أيقونة" هذه الجموع، وسرّ احتشادها وتجمّعها بلا رياح ربيعية موجّهة ولا استقطاب سياسي أو إعلامي يحرّكها.. بل بصورة تقليدية منتصرة للفضيلة التي غيّبتها الحضارة والحداثة. لعمري إنّ هذا الشعب قادم من العصور السابقة من تاريخ الأمة ويترجم فزعة أجداده الأنصار شكلاً ومضموناً نقياً من كلّ ملوّثات وشوائب هذا العصر.
من هذه المشاهد يستقرأ العبد لله الأسباب التي بموجبها تعرّض هذا الشعب لحملات خبيثة مجنّدة من داخله وخارجه، شابتها السخرية والنعت له بالتخلّف والجهل والفقر والدونية وعدم مواكبته لمتطلّبات الحضارة والمدنية والرقي. استقرأت وأنا بين الجموع عقوداً طويلة من المؤامرات التي هدفت إلى إغراقه في مستنقع أزماته الداخلية حتى يتوه وينهك وتغيب عن خاطره هذه القضية وهذا المشهد الذي يبدو به اليوم، وكم زهوت بتخلّفي وجهلي وبساطة ملبسي ومأكلي وبكوني يمنياً.
وأنا أغادر الساحة حرصت على أن أجلد ذاتي التي توقّعت أن يكون الشعب قد سكنه اليأس والملل، وقبلها كنت قد عاتبت نفسي التي كانت تتمنّى أن نصبح مثل بقية شعوب الله في الأرض بمظهرنا وحياتنا، وجاءت العقود والمراحل لتؤكّد لي أن بقاءنا على هذا الواقع فخر وشرف لا يضاهينا فيه أحد من سكّان مدن الأبراج والزجاج.