أحمد بدير: الحزن لا يعرف الدُفعات
كيف لا نعتاد ولا ننسى أحمد بدير؟، أما عن الإجابة فتكمن في أن نقرأ أحمد بدير، القصد أن نقرأ ماذا كان يكتب قبل كل شيء، أي قبل الرحيل، ومن ثم نقرأ الرحيل كقوة قائمة بذاتها.
لم يترك رسالة الوداع قبل الرحيل على الرغم من أنه كان من أولئك الذين يتقنون فن كتابة الرسائل، ولكن كان الرحيل هو بحد ذاته الرسالة، حيث الشهادة كانت عند لحظة البحث عن الحقيقة، تلك اللحظة التي يمتزج فيها الرّصاص والقصف والحصار والموت المطبق بكل وحشية وجنون مع الورق والقلم، إذ يبقى السؤال هنا: ألا يكفي الرحيل في سبيل الحقيقة درساً للباقين؟ لربما علينا البحث عن حقنا في الإجابة لا التفكير بالسؤال، لأن هناك من رحل في سبيل السؤال، وأكثر في سبيل إزالة القناع عن الإجابة، إذاً رحل أحمد بدير* دفعة واحدة، بل مرة واحدة وإلى الأبد.
من صُلْب تلك الكلمات نقفز بوثبة سريعة إلى القول إن الاحتلال يحاول أن يجعلنا نعتاد الموت، لكن الاعتياد هنا هو خيانة لمن سبقونا، على الرغم من أننا علينا أن نستعد له دوماً طالما الاحتلال باقٍ على التراب المقدّس، فضلاً عن ذلك يحاول أيضاً الاحتلال أن يجعلنا نسقط في فخ النسيان، القصد هنا نسيان الذين رحلوا، ومن جديد إن النسيان أيضاً ليس هنا نعمة، بل نقمة وخيانة، إذاً قاعدتان علينا الحذر من ممارستهما وهما: الاعتياد والنسيان، وعليه علينا ألا نعتاد رحيل أحمد بدير وألا ننساه.
يبقى السؤال: كيف لا نعتاد ولا ننسى أحمد بدير؟، أما عن الإجابة فتكمن في أن نقرأ أحمد بدير، القصد أن نقرأ ماذا كان يكتب قبل كل شيء، أي قبل الرحيل، ومن ثم نقرأ الرحيل كقوة قائمة بذاتها، وبعد ذلك نفهم الدرس، حيث ما بين ما كان يكتبه أحمد بقلمه وما بين الرحيل كان الموت متلازماً للخلود، وهنا أبدع أحمد بدير في انتزاع، بل في اقتطاف خلوده الأبدي، إذ كان أحمد بدير يبحث عن خلوده عبر العبور إلى القلوب والعقول، فضلاً عن أن أحمد كان إنساناً يسعى للبقاء في داخلنا حتى ما بعد الرحيل، وهذا هو الخلود الحقيقي، بل الإنساني، خصوصاً عندما تموت شهيداً، بل إنساناً في سبيل الكشف عن الحقيقة، القصد الحقيقة كلّ الحقيقة للجماهير كما قال غسان كنفاني من قبل، وعندما أدرك أحمد بدير ذلك استشهد.
من زاوية ليست بعيدة عمّا سبق، إن للحزن على رحيل أحمد بدير طعماً خاصاً، إذ ليس هو الحزن على الموت، حيث الجميع يوماً سيرحل، وإنما الحزن هنا على بقائنا من دون أحمد بدير، من دون كلماته، ومن دون قلمه، ومن دون ضحكته...، وفي السياق نفسه سُئل سيدنا علي: هل هناك شيء أعظم من الموت؟ قال: نعم، فراق الأحبة. وأحمد بدير كان من الأحبة الذين برحيلهم أصبحوا العبرة لفكرة الرحيل، الفراق، الوداع، تختلف هنا المفردات لكنّ الألم واحد.
يقول غسان كنفاني: "استشهد الماء ولم يزل يقاتل الندى، استشهد الصوت ولم يزل يقاتل الصدى"، وإذ جاز القول من وحي كلمات غسان: استشهد أحمد ولم يزل يقاتل القلم، استشهد أحمد ولم تزل تقاتل الكلمة، حيث رحل أحمد بدير وهو ينقش كلماته الأخيرة التي بواسطتها كان يبحث عن سبب كل هذا الموت، وأكثر يبحث من خلالها عن سبب تلك الأجساد التي تتساقط إلى جانبه، بل عن دموع الأطفال المختلطة بالتراب والخوف، وأيضاً عن صراخ تلك الأم التي فقدت كلّ أطفالها وما زالت تنتظر، هنا تحديداً كان يبحث أحمد بدير عن إجابة لسؤال: لماذا كانت تصرخ هذه الأم، هل لأنهم رحلوا معاً وبقيت وحدها، أم لأنها لم يحالفها الحظ أن تذهب معهم؟
في إطار ما سبق ليس المهم أن يموت الإنسان قبل أن يحقّق فكرته النبيلة، هكذا يقول غسان كنفاني، إذ كان يعلم غسان أن الإنسان وجد ليموت، ولكنه أكمل يقول على الإنسان أن يجد لنفسه فكرة نبيلة قبل أن يموت، وأحمد بدير وجد تلك الفكرة وأسلوب الرحيل كان هو الدليل على صدق ما نقول، إذ ولدت تلك الفكرة ولم يعد بوسع أحمد التخلّص منها، وأكثر لم يقم بخيانتها كما حذّرنا غسان كنفاني، ولذلك كان أحمد بدير حذراً من الموت الطبيعي ومات فعلاً بين زخات الرّصاص.
يقول أحمد بدير في آخر كلماته: "إن الحزن لا يعرف الدُفعات، يأتي مرة واحدة وللأبد"، ومن عمق هذه الكلمات نعود ونكرّر أن أحمد بدير قد رحل فعلاً وللأبد كما تنبَّأ، حيث نكرّر هذه الحقيقة لنصدّقها، إذ الإنسان الفلسطيني يبقى دائماً مجبولاً بالصدمة خصوصاً عندما يتلقّى نبأ رحيل أحدهم، ويستمر هذا الإنسان يسأل نفسه: هل فعلاً استشهد؟، ويقفز الإنسان الفلسطيني إلى زاوية الذكريات باحثاً عن موقف صغير محاولاً بذلك قتل الرحيل بالذكرى، وفي سياق منفصل لا يمكن حين نموت أن نكتب، ولكن نستطيع أن نجعل من الموت قصة نكتبها عند الرحيل الأبدي، وأحمد بدير تفوّق علينا جميعاً في كتابة قصته، إذ كتبها بالدم.
إذاً رحل أحمد بدير، الإنسان، المثقّف، الصحافي المتفاني كما وصفته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن ثم أخيراً الشهيد، رحل وهو يمسك في اليد اليمنى قلماً، واليسرى ورقاً، ولم يترك أبداً الحقيقة تفلت من بين يديه، رحل وهو يُلقي علينا قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، إذ قال درويش:
أنا أحمدُ العربيُّ فليأتِ الحصارْ
جسدي هو الأسوار فليأت الحصار
وأنا حدود النار فليأت الحصار
وأنا أحاصركم
أحاصركم..
أحمد بدير: صحافي فلسطيني
مُحرّر ومُعد تقارير في موقع مجلة الهدف الفلسطينية، استشهد بتاريخ 10/1/2024.