"طوفان الأقصى" معادلة التغيير الشاملة
عملية "طوفان الأقصى" وحالتها الشعبية والتفاف الشعب الفلسطيني حولها، تشكل دعوة واضحة إلى ضرورة تعزيز وحدة مكوّنات الشعب الفلسطيني وتعزيز دور فلسطينيي الشتات.
يتوقف المتابع لمسار حركة التحرير الفلسطينية عند الأساليب والوسائل الكفاحية التي سلكتها هذه الحركة عبر تاريخها، فالسمة الثابتة للنضال الفلسطيني هي رفض الركون ومقاومة الاستعمار على مختلف العباءات التي تدثر بها منذ ما ينيف على مئة عام، ولأن الظروف والمتغيرات المحيطة بالحركة الفلسطينية لم تكن مواتية في كل الأحوال، فقد انطبعت هذه الحركة بسمة أخرى هي القدرة على إعادة التكوين واستخدام كل الوسائل المتاحة والممكنة للتعبير عن إرادة الاستقلال.
في هذا السياق، سلكت المقاومة الفلسطينية دروباً سبق لحركات تحرر أخرى أن سلكتها، وتمكّنت بطول المراس من إبداع وسائلها الكفاحية الخاصة بها. وكانت المقاومة المسلحة ولفترة طويلة الوجه الأكثر بروزاً للنضال الفلسطيني، حيث تبنت الحركة الوطنية الكفاح المسلح وعدّته الأسلوب الوحيد لتحقيق الأهداف في مواجهة الاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين خصوصاً في الستينيات، ومن السهل أن يعثر المرء على ما يؤكد هذه الحقيقة، إذ إن معظم الوثائق السياسية الخاصة بالتنظيمات الفلسطينية يبرز أهمية العمل الثوري المسلح بين طرائقها على نهج التحرير، فضلاً عما يتضمنه الميثاق الوطني الفلسطيني – الذي يشبه الدستور في الظروف المعتادة – والذي تتبناه منظمة التحرير الفلسطينية بهذا الخصوص.
في مثل هذه الأجواء، استحوذت المفاهيم المرتبطة بالكفاح المسلح كحرب التحرير الشعبية والعنف الثوري وحرب العصابات على الاهتمام على صعيدي الفكر والحركة، وجدير بالذكر في هذا الموضع ارتباط المشروع الصهيوني ونتائجه منذ البداية بالعنف كمنهج وأسلوب حياة، لم يتح الفرصة للمنشغلين فلسطينياً وعربياً للتفكير في غير العنف كسبيل لرد التحدي الصهيوني، فالحركة الصهيونية هي التي أوجدت وعززت مفاهيم وممارسات العنف في فلسطين والمنطقة المحيطة.
وبهذا، فقد شكل الكفاح المسلح في النموذج الفلسطيني وسيلة لإبراز الشخصية الفلسطينية مجتمعياً، إذ لم يكن الكفاح المسلح مجرد أداة لمواجهة جانب القوة في التحدي الصهيوني، وإنما كان أيضاً علاجاً لكثير من مظاهر العقم النفسي والإبداعي في الشخصية الفلسطينية وأداة لتعزيز الكرامة الوطنية الفلسطينية، وربما قاد في إحدى المراحل كما حدث بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 مباشرة إلى إعادة الثقة وتعزيزها في أبناء الأمة العربية.
وبالتالي، فإن حالة "طوفان الأقصى" هي انعكاس طبيعي ومنطقي إذا ما فهمت طبيعة الشعب الفلسطيني، وقواه الوطنية الحية، وهي أيضاً ضرورة وطنية واجتماعية، فتتمثل الأولى بكون الواقع الفلسطيني اليوم في غاية التعقيد، أما الثانية فتتمثل بحالة العطش للانتصار الحقيقي الملموس ولأخذ موضع الهجوم وليس الاكتفاء بالحالة الدفاعية فقط.
"طوفان الأقصى" المعادلة الجديدة:
سلطت عملية "طوفان الأقصى" نقلة نوعية في قراءة مشهد الصراع الفلسطيني-الصهيوني، وذلك لاعتبارات عديدة إذ تم تسليط الضوء على:
أولاً: نقاط ضعف الاستخبارات الصهيونية، التي ظهرت هزيلة وأخذت على حين غرة وسقطت في أهم اختبار نكاد لا نبالغ إذا قلنا إنه يهدد الوجود المجتمعي الصهيوني، فهو الآن يشعر بحالة عدم اليقين والأمان، وهذه هي المرة الأولى منذ عقود التي تظهر فيها "إسرائيل" مثل هذا الشعور بالضعف.
ثانياً: هزالة "الجيش" الصهيوني وعدم قدرته على استخدام معداته الحديثة، وتشير الإحصائيات الأخيرة أن نسبة ثقة سكان الكيان الصهيوني تقهقرت من 80% إلى ما دون ذلك بكثير وذلك بعد حالات الفشل المتلاحقة لهذا "الجيش"، وأصبح ترويج الصهاينة أنهم العصا الغليظة التي تدافع عن القوى الإمبريالية من الماضي، إذ بدا اليوم أن هذا "الجيش" هو الذي يحتاج إلى من يحميه.
ثالثاً: خلل منظومة الحماية، وذلك نتيجة أن العشرات من مقاتلي حماس تسللوا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة واحتجزوا عدداً من الجنود، ودخول الصحافة الفلسطينية أيضاً، هذا كله سيترك بلا شك انطباعاً دائماً أن أسطورة القلعة المنيعة تم تحديها بشكل خطير وفشلت.
رابعاً: انهيار حالة الأمن على الحياة المقدسة، إذ في غضون ساعات قليلة، تشير التقارير الأولية إلى مقتل عشرات وإصابة المئات في الجانب الصهيوني.
خامساً: إنهاء حرية الكيان الصهيوني في التحرك إقليمياً، إذ إن "طوفان الأقصى" شكلت صفعة كبرى في مسار عمليات التطبيع العربي-الصهيوني، والتي تعمل على تتويجها مع أكبر قوة عربية وهي المملكة العربية السعودية، إذ أصبح يطرح سؤال اليوم كيف سيكون رد فعل السعودية؟ هل سيؤدي هذا الصراع الجديد إلى إغراق عملية التطبيع؟، خصوصاً مع تعهد رئيس وزراء الكيان بتصعيد غير مسبوق مع حركة حماس، ما يجعل المشهد الآن غير مناسب للتطبيع لا سعودياً ولا صهيونياً حتى.
"طوفان الأقصى" التكتيك الجديد:
إن الاستراتيجية العسكرية الفلسطينية توفر إطاراً أساسياً يتوافق مع استراتيجية الدفاع ويتكامل مع استراتيجية الهجوم التي تبدو أكثر جرأة وتعقيداً، وتبدو عملية "طوفان الأقصى" كأنها جزء من خطط أساسية متكاملة وموزعة بين حالات الطوارئ وهذا ما يظهر عند الرد على الاعتداء الصهيوني المفاجئ أي في حالات الدفاع الفلسطيني، أو في الحالات العادية المخطط لها وهي عند الهجوم كما حدث اليوم في "طوفان الأقصى".
ولعل أغلب الانتصارات التي شكلت هزة في المجتمع الصهيوني وأجهزته الأمنية كانت على شكل مفاجأة من حيث التوقيت أو الكيفية وهذا ما حدث في "طوفان الأقصى"، ولنا أيضاً في مشاركة أهلنا في الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1948 في معركة "سيف القدس" مثال على ذلك، بعد قيامهم باحتلال مدينة اللد، وأيضاً ما جرى من معارك مسلحة في الضفة الغربية على يد كتيبة جنين أو عرين الأسود وكسرهم لهيبة "الجيش" الصهيوني.
ماذا بعد؟
إن ما حدث في "طوفان الأقصى" يدعو اليوم القوى السياسية الفلسطينية إلى انتهاج استراتيجية جديدة تعيد الصراع إلى مربعه الأول بصفته صراعاً بين حركة تحرر وطني وحركة استعمارية احتلالية، وتركز على الشعب استناداً إلى مشروع وطني يتوجه إلى الكل الفلسطيني ويعظم من هويته الوطنية وروايته التاريخية.
أما بخصوص السلطة الفلسطينية ومصيرها، فإن وظائفها الحالية يجب أن تتغير وتتحلل من التزاماتها تماماً، خصوصاً الأمنية والاقتصادية إزاء اتفاق أوسلو وتحصر مهماتها في ضمان أمن الفلسطينيين وتوفير مقومات بقائهم وصمودهم فوق الأراضي الفلسطينية.
أخيراً، فإن عملية "طوفان الأقصى" وحالتها الشعبية والتفاف الشعب الفلسطيني حولها، يشكل دعوة واضحة إلى ضرورة تعزيز وحدة مكونات الشعب الفلسطيني وتعزيز دور فلسطينيي الشتات وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وإصلاح مؤسساتها على أساس التشاركية والعدالة وإبراز صورتها على حقيقتها، لا بصفتها نظاماً سياسياً شبيهاً بغيرها من أنظمة حكم، بل بصفتها حركة تحرر وطني تناضل ضد الاستعمار الاستيطاني.
وانطلاقاً من تلاحم الشعب الفلسطيني، فإن هناك ضرورة لتشكيل إطار تنسيقي جامع لممثلي الكل الفلسطيني، ولا يكون بديلاً من منظمة التحرير وإنما ليتيح لممثلي الفلسطينيين في أراضي الـ 48 بصورة خاصة فرصة التشاور والتنسيق مع أشقائهم من ممثلي المناطق الفلسطينية المحتلة عام 67 والشتات بشأن الهموم الوطنية المشتركة.