"شو خصنا نحنا": سردية الضيف (2)
يهدف الأميركي من خلال إرساء دور دولة إسرائيل "الحاجز" ضمان استدامة كيانات سايكس-بيكو لعشرات ومئات السنوات القادمة وجعل "إسرائيل" الدولة المحورية والأقوى عسكرياً لتحديد مسار هذه المنطقة.
الأمة العربية خاضت صراعاً مريراً مع "إسرائيل"، ليس كاحتلال استيطاني مسلح بتمويل ودعم غربي فحسب، بل كمشروع يهدف إلى تمزيق الهوية العربية خدمة للمصالح الإمبريالية أيضاً.
في المقابل، لجأت بعض الدول العربية إلى التطبيع الاقتصادي والسياسي، فيما استمرت أخرى في مقاومة هذا الواقع وتصدت لهيمنته على السوق الإقليمي واقتصادها كدول محيطة به. في هذا الجزء، سنتطرق إلى الدور الوظيفي للكيان الاستيطاني ونعيد توصيفه بما هو عليه واقعياً وليس كما أريد لنا أن نعيه.
لماذا "إسرائيل" عدو؟
بعد فشل الأميركي في استبدال دور "إسرائيل" في المنطقة بمشروع تحالف عربي-"إسرائيلي" بسبب تراكم القوة وانتصارات القوى العربية والإسلامية المناهضة لإسرائيل ولهذا المشروع، عاد اليوم الأميركي ليحاول على الأقل تثبيت مبدأ الردع الإسرائيلي والحفاظ على وظيفته الأساسية بهدف الحفاظ على نفوذ واشنطن في المنطقة.
هنا نعود لنحدد الوظيفة الأساس لهذا الاحتلال الاستيطاني الذي يعمل لخدمة مصالح أميركا بالدرجة الأولى. إن دور "إسرائيل" الوظيفي هو أن تكون "دولةَ حاجز"، وهو مفهوم قديم قام بإرسائه الأوروبي لمنع اتحاد المنطقة العربية التي تتكلم لغة واحدة ولها غالبية دين واحد وتربطها مصالح مشتركة.
يهدف الأميركي من خلال إرساء دور دولة إسرائيل "الحاجز" ضمان استدامة كيانات سايكس-بيكو لعشرات ومئات السنوات القادمة وجعل "إسرائيل" الدولة المحورية والأقوى عسكرياً لتحديد مسار هذه المنطقة، سواء عبر التطبيع، أي الإمساك الاقتصادي، أو عبر الحروب المستدامة التي ترسي بدورها قواعد منع التطور والازدهار تحت تهديد النار.
إذا قامت "إسرائيل" منذ نشأتها على مبدأ القوة ووهم أنها لا يمكن أن تهزم عسكرياً، ولو نوت عليها كل الجيوش العربية، فإنها بعد 7 أكتوبر لم تعد كذلك، وانهار وهم قوتها الرادعة وبأنها القوة التي لا تهزم، ولم يبقَ لها سوى حلم تحقيق الردع عبر استعمال القوة المفرطة ضد المدنيين ووهم استعادة دورها السابق. ومن أجل إعادة تحقيق هذا الدور فعلاً يتوجب على العدو كسر شوكة المقاومة في أي نقطة كانت فيها، إن كان الضفة أو غزة أولاً، وفي دول الجوار ثانية.
ومع انتظام نهج وحدة الساحات في محور المقاومة، فرض على العدو الإسرائيلي كسر قوى المقاومة في لبنان واليمن والعراق وسوريا بغية تحقيق هدفه، وهو أمر يفوق قدرة الوكيل. لذلك، توجّهت بوارج الأصيل إلى البحر الأحمر دفاعاً عن تل أبيب بالظاهر، ودفاعاً عن مصالحها العليا ضمناً.
في المقابل، تدرك المقاومة أن عليها في أقل تقدير، ومن أجل تحطيم قوة الردع الإسرائيلي بصورة كاملة وغير قابلة للترميم، منع الإسرائيلي من كسر شوكتها مهما كلف الأمر، ومهما بلغ الثمن من أرواح وممتلكات.
وهنا، نعيد التأكيد أن الحرب بين العرب و"إسرائيل" ليست حرباً بين دول تنتهي باتفاقية ما فيما يحافظ الجانبان على وجوده وهويته، بل هي حرب إقصاء إما للكيان الاستيطاني وإما للأمة والهوية العربية، وانتصار أعلى الإمبريالية، فلا مكان للهويتين معاً.
وعملاً بهذا المنطق، نستنتج أن أي خسارة عربية في أي بقعة عربية لن تنعكس إلا سلباً على العالم العربي أجمع، وسقوط المقاومة يضعنا أمام نكسة جديدة، فإذا كانت النكسة الأولى قد أودت بنا إلى التطبيع، فالثانية لن تنتهي إلا بالاحتلال الكامل.
وبناء عليه، فإن وحدة المقاومة ذات الخبرات والقدرات الواسعة ونجاحها عبر عقود في بناء خطوط ربط بين الساحات عبر تصنيف "الأمة العربية" بما فيها من أصدقاء وأعداء وعملاء هي كيان واحد وذات مصير واحد. وبالتالي، لم يعد الأميركي الذي كان يتعامل مع المنطقة على أنها قطع كيانية منفصلة يمكن فصل الواحدة عن الأخرى والاستفراد بها قادراً على ذلك.
المعادلة واضحة إذاً، فإذا سقطت المقاومة في غزة ستتبعها حرب على بيروت، ومن بعدها دمشق وبغداد وصنعاء وكل دولة تجرأت على الحفاظ على كرامتها وسيادتها الحقيقية. وإذا ثبتت المقاومة في غزة، فإن "إسرائيل" ستسقط، وسينحسر نفوذ أميركا في الكيانات المطبعة ومع الأحزاب والمؤسسات التي تروج وتعمل لمصلحة التطبيع في الأمة العربية.
أما على المستوى الإنساني، فأهل غزة ليسوا وحدهم، فهم كبشر من أبناء جلدتنا، ويكونون لنا إخوة في الهوية، كما هم أبناء الضفة الغربية الذين يقاومون ويدفعون أثماناً باهظة، كما في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وتحرير فلسطين بالتالي بات محرراً للأمة بأكملها من العدو الذي يعمل جاهداً على ضربها من حيث الاجتماع والاقتصاد والأمن والعسكر.
غزة أعادت وضع العالم العربي موحداً على الخريطة العالمية بدلاً من أن يكون مهمشاً مفتتتاً ومفعولاً به. قضية فلسطين هي قضية العرب جميعاً، لا الفلسطينيين وحدهم، وهي تعنينا وجودياً وخصوصاً نحن المسيحيين، فنحن جزء لا يتجزأ من هذه الأمة، ولسنا ضيوفاً فيها، وعلينا واجبات كما لدينا حقوق فيها كباقي المكونات.
القضية المركزية ليست مجرد خلاف سياسي
في الختام، يتضح أن "إسرائيل" ليست دولة ولا حتى كياناً سياسياً مشروعاً، بل هي احتلال استيطاني ممول ومنظم من قبل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ووجودها يستند إلى القوة العسكرية، وليس له مبرر ديني أو اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي خارج المصالح الغربية، واليهود العرب كانوا تاريخياً جزءاً لا يتجزأ من نسيج هذه الأمة.
من شروط العلاقات الدولية بعلم السياسة أنَّ الدول تتعامل مع بعضها البعض على أساس أن الحرب والسلم العسكري يستكملان الخلافات والاتفاقيات السياسية بأساليب مختلفة. أما "إسرائيل"، فقد أُرسي وجودها عبر ميليشيات إجرامية مثل "الهاغاناه" وغيرها، ولم تكن استكمالاً لأي سياسة، بل كانت فرضاً لواقع جديد يهدف إلى القتل والترهيب بغية قيام "دولة الحاجز" بدافع نهب واستثمار ما عرف بالعهد البريطاني "بالشرق الأوسط" الذي هو بالفعل الأمة العربية.
بعد النكبة، لبست هذه الميليشيات لباس رجال الأعمال وبدلات جيش نظامي، وقدمت نفسها على أساس أنها دولة، فيما نعلم جميعاً أن المستوطنين ورجالاتهم ليسوا سوى قطاع طرق وأبناء ميليشيات دموية، وما حرب غزة إلا الوجه الحقيقي لهذا "الجيش النظامي"، إذ ظهرت الميليشيوية الدموية بوضوح.
من هنا، تقع علينا مسؤولية إظهار العدو على حقيقته كميليشيا تعتاش من الدم العربي وممولة من القوى الإمبريالية الأميركية والأطلسية، ويجب التعامل معها على هذا الأساس، وليس على أساس مفاهيم مستوردة أسقطت عليها لتجعل منها في الوعي العام دولة نظامية.
أضف إلى ذلك أنَّ القوى الإمبريالية الغربية تحسَّست رأسها جيداً لحظة فشل العدو في القضاء على المقاومة خوفاً على مصالحهم في المنطقة في حال انهار خط الدفاع الأول عنهم، أي الكيان الإسرائيلي المصطنع.
ختاماً، وبإظهار هذه الحقائق، نعيد التأكيد أن القضية المركزية ليست مجرد خلاف سياسي، بل هي صراع وجودي تتحدد فيه الهوية ويحدد مستقبل للأمة العربية، وعلينا بالتالي البقاء في حالة استنفار ويقظة تامة لمواجهة هذا العدو بكل الوسائل الممكنة، مؤكدين وحدة صفوفنا وتماسكنا في وجه محاولات التفرقة والهيمنة.