"العالم بأكمله اكتشف حقيقتهم"
من ينظر إلى صورة " إسرائيل" قبل "طوفان الأقصى" وصورتها اليوم لا يملك إلا أن يعلق" أين كانوا وأين صاروا؟"
من ينظر إلى حسابات المستوطنين الصهاينة على وسائل التواصل الاجتماعي ويقرأ منشوراتهم وتعليقاتهم يكتشف من دون أدنى جهد عمق الفجوة أو الهوة بينهم وبين قادتهم، هذه الهوة التي تشكل حالة من فقدان الثقة بل وانتهاء ما كان في السابق يقيناً بالنسبة إليهم بأنهم يعيشون في " وطنهم الموعود". نعم، فإحساسهم بالحماية والمواطنة المزعومة قد ولى إلى غير رجعة.
فما كانوا يعدّونه يوم استقلالهم ويستقبلونه بالاحتفالات والبهجة، أصبحوا يستقبلونه في الملاجئ أو تحت هراوات شرطتهم وخراطيم المياه العادمة المنسكبة عليهم في شوارع "تل أبيب"، من جراء مطالبتهم بإسقاط نتنياهو وحكومته. أما متى وكيف يخرجون من هذه الحالة فذلك في علم علام الغيوب.
لا يمكن لأي منهم التكهن بشيء، ولا يوجد أمامهم مسؤول سياسي أو عسكري يثقون بكلامه ولا بوعوده. فهم جميعاً أمام حالة تصفها كاتبة معارضة اسمها أوري بارليف في منشور لها على فيسبوك قبل كتابة هذا المقال بساعات" شرطة مجنونة في خدمة وزير مجرم وحكومة فاسدة ومعطلة".
ومثل هذه المنشورات أكثر من أن يعد. طبعاً ليس المقصود بإيراد مثل هذه المنشورات في هذا المقال الحديث عن معارضة للحكومة بمفهومنا نحن.
فهم لا يعارضون الإبادة ولا يعارضون الاحتلال، لا يعارضون مصادرة الأراضي ولا هدم البيوت الفلسطينية والعربية على رؤوس أصحابها وتسويتها بالأرض، لأنهم بالتأكيد لو كانوا كذلك فإنهم سيعارضون أنفسهم، بل هم يعارضون عدم اهتمام الحكومة بأسراهم لدى المقاومة، يعارضون أن يرجع أبناؤهم من الحرب على غزة وعلى جنوب لبنان في توابيت أو أشلاء، بينما أبناء مسؤوليهم يعيشون حياتهم طولاً وعرضاً في الخارج أو في وظائف آمنة. يعارضون أن يتظاهر طلبة الجامعات في الغرب ضدهم، يعارضون أن يقضوا جزءاً من حياتهم في الملاجئ بدل أن يقضوه على شاطئ البحر وفي الملاهي.
يعارضون أن يغادر البعض إلى البلاد التي يحمل جنسيتها، وأن يفكر البعض الآخر في المغادرة. يعارضون أن تعدّ أميركا "للثلاثة" قبل أن تزوّدهم بالسلاح، علماً بأن أميركا برئيسها ووزير خارجيتها ومسؤوليها لم يتركوا فرصة للتأكيد أن سياستهم تجاه دعم الكيان لم ولن تتغير، وما أعلن عنه بلينكن مؤخراً بأن الخارجية الأميركية تأكدت من مصادر" إسرائيلية موثوقة" أنهم يستخدمون الأسلحة الأميركية ضمن القانون الدولي. وكأن الفتك بالفلسطيني جاء منسجماً مع القانون الدولي، بل هو القانون الدولي ذاته.
ومع ذلك، هناك حسابات أكثر مثل إيلان يوشي -مثالاً لا حصراً-تهاجم هؤلاء المعارضين "اليساريين" الذين سبق لهم وانتقدوا بن غفير وسخروا من دعوته إلى إعدام الأسرى الفلسطينيين وتسليح الكل الإسرائيلي، فيقول:" سخرتم من بن غفير قبل 7 أكتوبر، هل تأكدتم أنه كان على حق؟ وها هم آلاف يصطفون في الطابور للحصول على ترخيص للسلاح، بما فيهم أولئك الذين سخروا من بن غفير".
ومن يوشي وغيره نقرأ الدعوات لمنتقدي الحكومة إلى الكف عن الانتقاد حتى لا يستغل الأعداء " النازيون" هذه الانتقادات لصالحهم. وغني عن التوضيح أن المقصود بالنازيين هو المقاومة الفلسطينية وأنصارها. وهذه الفجوة التي نراها ليست عميقة بما يكفي ليعوّل عليها وعلى قدرتها على إحداث التغيير، لكنها بشكل أو بآخر تعزز الشرخ في داخل مجتمع الكيان لتشكل عنصراً من عناصر التأكل الداخلي الذي يخلخل لبنات مجتمع كان يعتقد أنه قوي ومتماسك وعصي على الانهيار.
يتضح هنا وبشكل جلي مدى هشاشة بنيانه وخوائه الداخلي لتأتي ريح من خارجه وتعصف به، والريح آتية عاتية لا تتوقف، فقد بدأت من انتصار أيار وتحرير الجنوب مروراً بانتصارات المقاومة اللبنانية على العدوان في العام 2006 التي شكلت أرضية صلبة لانتصارات المقاومة الفلسطينية في العام 2009 وما تلاها من انتصارات وصولاً إلى "طوفان الأقصى".
وهذا الشرخ يتعمق كل يوم، فنسمع صيحاتهم كلما تلقوا ضربة موجعة من غزة أو من الجبهة الشمالية. لكنهم بالمقابل، يزدادون شراسة وعدوانية، خاصة حين يدركون اتساع رقعة التضامن مع الشعب الفلسطيني والمطالبة بإيقاف الحرب العدوانية على قطاع غزة، أي أنهم خسروا على المستوى الشعبي وخاصة الشبابي مئات آلاف المؤيدين الذين كانوا يتقبلون السردية الصهيونية والغربية، فيما أصبحت الأكاذيب مكشوفة.
فمع اجتياحهم رفح أعادوا اجتياح جباليا التي سبق لهم أن فتشوا بيوتها وقصفوها ودمروا مربعات بأكملها. عادوا ليخربوا المخرب وليهدموا المهدم وما بقي بلا هدم، يفرغون حقدهم دفعة واحدة. وقد أحسن وصفهم الممثل الأميركي ميل غيبسون في تغريدة له نقلها عنه كثيرون، تقول: " سيزولون قريباً، لذلك يدمرون كل شيء في طريقهم، العالم بأكمله اكتشف حقيقتهم".
برغم شراسة الحرب وما تركته من دمار، وبرغم عشرات بل مئات آلاف الأرواح البريئة التي أزهقت أو شردت، وبرغم.. وبرغم..فإن العدو خسر الكثير الكثير، ومن ينظر إلى صورة " إسرائيل" قبل "طوفان الأقصى" وصورتها اليوم لا يملك إلا أن يعلق" أين كانوا وأين صاروا؟"