"الديانة الإبراهيمية": تأثير صفقة القرن في الواقع العربي والقضية الفلسطينية
ما الاستراتيجية التي علينا كعرب اتباعها بهدف حماية أمتنا وتحصينها من مؤامرات كهذه في المستقبل، وخصوصاً مع احتمال عودة صاحب المشروع، أي دونالد ترامب؟
لقد رأينا بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي الدور العملي لبعض الدول العربية التي طبّعت مع الكيان الإسرائيلي في دعم هذا الكيان، سواء عبر جسرٍ بري بديلٍ من الممر المائي، أي البحر الأحمر، أو من خلال السكوت عن المجازر التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني في كل ساعة في سياق الهمجية الصهيونية.
منذ العام 2020، عُدنا نسمع عن الديانة الإبراهيمية من جديد، ولكن بمفهومٍ معسول ومموّه، وذلك بالتحديد في آب/أغسطس 2020 خلال الإعلان عن اتفاق تطبيع كلٍّ من مملكة البحرين والإمارات العربية المتحدة مع "الكيان الصهيوني"، والذي تمّ توقيعه في البيت الأبيض في عاصمة الولايات المتحدة الأميركية واشنطن في أيلول/سبتمبر من العام ذاته، في حضور ممثلين عن أطراف الاتفاق، وبرعاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إذ أُطلق اسم "أبراهام" على هذا الاتفاق.
لفهم ماهية هذه الديانة الجديدة أكثر، نطرح الإشكالية التالية:
ما حقيقة الديانة الإبراهيمية؟ وما علاقتها بـ"إسرائيل"؟ وماذا يُراد بها في مواجهة عالمنا العربي؟
هي ديانة مبتدعة تتحدث عن المشترك بين الأديان السماوية، أي اليهودية والمسيحية والإسلامية، لإظهار القيم الروحية المشتركة بينها، كالخير والسلام والحب والسعادة ووضع المختلف عليه جانباً.
1- الأركان
بالعودة إلى مفهوم الديانة الإبراهيمية، سنجد أنها تطرح عدداً من الأركان الرئيسية، نذكر ما يلي:
أ- محورية النبي إبراهيم (ع)، باعتبار أن ذكره يحمل التقارب والقبول والقدسية، ويمثل المشترك بين الأديان السماوية.
ب- وضع ميثاق تكون له القدسية الدينية كبديل من المقدسات السماوية عبر الحوار بين الأديان الإبراهيمية، ليؤسس للمشترك الديني بينها.
ج- اعتماد آلية التفاوض الدبلوماسي غير الرسمي كساحة للعمل والتعاون بين رجال الدين والساسة.
د- اختيار القادة الروحيين، وفق معايير كثيرة، أهمها تمتعهم بالتأثير الفعلي داخل مجتمعاتهم وتمتعهم بسمعة حسنة، باعتبارهم من الأدوات المهمة لنشر هذا المفهوم على الأرض.
ه- "الحوار الخدمي"، وهو أداة لجذب المؤيدين والداعمين من المجتمعات المحلية من خلال تقديم خدمات تنموية على الأرض.
2- الأدوات
يحدد مُرَوِّجو الديانة الإبراهيمية مجموعة من الأدوات الأساسية لتنفيذ هذا المخطط، أبرزها مايلي:
أ- منظمة الأمم المتحدة: تقوم هذه المنظمة الدولية والمرجعية العالمية بربط هذه الفكرة بأهداف التنمية المستدامة، على اعتبار أنها تكافح آفة الفقر العالمي عبر الحوار الخدمي. من هنا يستطيع الفريق العلماني استيعاب الفريق المتدين. ومن خلال متابعة برامج الأمم المتحدة، نلاحظ تخصيص الدعم للأنشطة التي ترفع شعار السلام العالمي والأخوّة الإنسانية.
ب- القمم والمؤتمرات الدولية: من أبرز المحافل الدولية التي تُعَدُّ تطبيقاً عملياً هي مؤتمر دافوس، الذي يهدف بدوره إلى الوصول إلى المشترك الديني الإبراهيمي والتقارب بين الساسة والقيادات الروحية من خلال توفير سُبل الدعم الممكن.
ج- المعسكر الغربي: دول عالم الشمال أو ما يُعرف بالمعسكر الغربي، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية التي بدأت بتأسيس هذا الفكر داخل مؤسساتها الرسمية؛ ففي عام 2013، تمّ إعداد فريق عمل حول السياسة والدين في أروقة وزارة الخارجية بقرار من هيلاري كلينتون، يضم قرابة 100 عضو نصفهم علماء دين من الديانات الثلاث.
د- الصراعات والخلافات الدينية بين أنصار الدين الواحد: على سبيل المثال، الصراع السني-الشيعي الذي يعتبر ممهداً لقبول هذا الفكر، باعتبار أن سلوك أبناء الدين الواحد بعيد عن التسامح داخل هذا الدين بحسب زعمهم، وبالتالي سيدفعهم نحو القبول بالديانة الإبراهيمية.
ه- السياحة الدينية المشتركة والتعاونيات النسائية.
3- الديانة الإبراهيمية: أداة للحرب الناعمة
إجمالاً، ترتكز القوة الناعمة على كل الأدوات والمؤثرات التعليمية والثقافية والأكاديمية وفي مجالات التجارة والعلاقات العامة وكل مورد ومصدر لا يُعد ضمن القدرات الحربية العسكرية أو مفهوم القوة الصلبة.
وتكون الحرب الناعمة ناجحة عندما يمتثل المُستهدفون طواعية للطلبات والقيم والسياسات الأميركية مثلاً من خلال جاذبيتها من دون أن يلمسوا هذه الجاذبية أو يشاهدوها بالعين المجردة. وفي حالتنا هذه، نتحدث عن الديانة الإبراهيمية وما تحمله من شعاراتٍ رنانة تدغدغ مشاعر الناس الذين يميلون إلى احترام المروجين لها، وبالتالي الأخذ بأفكارهم ونشرها بدورهم، وهو الهدف المرجو من هذه القوة الناعمة.
4- هدفها ضرب القضية الفلسطينية
يشكل انتشار الديانة الإبراهيمية خطراً حقيقياً على القضية الفلسطينية، ويتمثل من خلال حذف كلمة فلسطين من الوجدان العربي والإنساني كلّه. هذا ما لاحظناه فور وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الحكم، إذ قامت منظمة الأنروا بحذف عبارة "القدس عاصمة فلسطين" من المقررات الدراسية من الصف الأول إلى الرابع الابتدائي في مدارسها، لتحلّ محلها "القدس المدرسة الإبراهيمية"، في محاولة منها لتغيير هوية الأطفال الفلسطينيين، ليكونوا نواة التطبيق للمخطط الإبراهيمي.
وبما أن "الصهيونية العالمية" تدعم المخطط الإبراهيمي، فهي تسعى إلى نشر فكرة السلام المزعوم مع دول المنطقة مع سحب فكرة العداء تجاه "الكيان الصهيوني" من قاموس الشعوب العربية وتصوير هذا الكيان على أنه راعٍ للتقارب والأخوة.
5- خداع المصطلحات
عندما نتحدث عن "معركة الوعي"، نُدرك أنّ المصطلحات أصبحت من أهم الأدوات في الصراع الحضاري والفكري بين الشعوب والأمم والأحزاب وفي داخل المجتمع الواحد.
وقد بات واضحاً أنّ مَن يدّعي "ثقافة الحياة" زوراً هو مَن يريد التفريط في المقدرات والمقدسات للغرب عموماً، ولـ"إسرائيل" في فلسطين "المحتلة" خصوصاً. أما مَن يدافع عن أرضه وشعبه وكرامته، فيُتَّهم بأنه صاحب فكر "ثقافة الموت".
في أوكرانيا مثلاً، محاربة روسيا هي "دفاع" عن الأرض و"مقاومة". أما في بلادنا العربية، فيعتبرون "المقاومة" ضد "الاحتلال" والاعتداءات الإسرائيلية "عملاً إرهابياً". حتى في تفاصيل "العمل المقاوم"، "الحجر" أصبح "أداة قتل". أما "الميركافا" فهي أداة "دفاع" لدى "جيش الدفاع الإسرائيلي" الذي ينعت "المقاومين" بـ"المخربين". والغرب كان دائما ًيبتدع مصطلحات لخدمة مشاريعه والترويج لها، مثل "العولمة" و"صراع الحضارات" و"الصيت العربي" الذي استُبدل فيما بعد بـ"الربيع العربي" وغيره، وصولاً إلى مصطلح "الدين الإبراهيمي" الذي يسعى إلى التخلص من "الدين السماوي" واستبدال "حرية المعتقد" بـ"المشترك الديني" والترويج لعبارات "السلام" و"الأخوّة" و"التقارب" عبر تطويع الشعوب وخداعها.
خاتمة
في النهاية، يمكننا استخلاص بعض العبر التي نذكر منها التالية:
أ- على حكام بلادنا أن يقوموا بواجبهم بحماية الأديان السماوية من أي محاولة لتزويرها، ورعاية مصالح العباد والبلاد، وذلك من خلال التصدي للديانة الإبراهيمية الخادعة بمساعدة الأكفاء والنخب من أهل الاختصاص والمخلصين منهم.
ب- على المثقفين والكُتّاب والمفكرين أن يبيِّنوا للعموم حقيقة الإبراهيمية الجديدة وأخطارها على مجتمعاتنا، وذاك عبر عقد الندوات والمؤتمرات والحلقات النقاشية من أجل كشف خفايا مشروع الديانة الإبراهيمية ومَن يقف وراءها من أعداء وأدوات عميلة.
ج- علينا جميعاً الاهتمام بالحوار والتلاقي والانفتاح على بعضنا البعض لطرد الفتن وعدم السماح بتغلغل الاختلافات بين دولنا وشعوبنا، فالأعداء يعتمدون على تأجيج الصراعات والفتن بهدف زيادة الشرخ وتوسيعه، وبالتالي السيطرة على مقدرات أمتنا ومقدساتها.
من هنا يُطرح السؤال التالي:
ما الاستراتيجية التي علينا كعرب اتباعها بهدف حماية أمتنا وتحصينها من مؤامرات كهذه في المستقبل، وخصوصاً مع احتمال عودة صاحب المشروع، أي دونالد ترامب؟