"إسرائيل" أمام خيارين: الزوال أو الهرب
"إسرائيل" التي كان يخطّط مؤسسها دايفيد بن غوريون لتوزيع جيشها على تلال المنطقة برمّتها وكأنها ملك له، تدرس اليوم خسائرها الكبيرة.
"الرصاص المصبوب" 2008، "عمود السحاب" 2012، "الجرف الصامد" 2014، "حارس الأسوار" 2021، "الفجر الصادق" 2022، وغيرها من التسميات الغليظة التي أطلقها الاحتلال على عملياته ضد قطاع غزة، ذلّت مفاعليها أخيراً على لسان رئيس الأركان الإسرائيلي السابق دان حالوتس، بقوله عام 2023، استيقظوا.
خاطب حالوتس قادة "إسرائيل" مذهولاً بعملية طوفان الأقصى قائلاً: "إن كلّ من لديه أمل بانتصار على شاكلة حرب الأيام الستة اقترح عليه أن يستيقظ، نحن أمام نتيجة مسار طويل من التدهور، وكذلك بسبب عمى مؤقت للمؤسسة العسكرية، فهذه أول مرة تجنّد فيها إسرائيل كل احتياطها"، وختم قائلاً "أتمنّى ألّا تستغرق الحرب وقتاً طويلاً".
حالوتس لا يحلّل، لا يشعر، لا ينفعل، لا يبالغ، لأنّه رئيس الأركان الذي قاد جيش "إسرائيل" إلى هزيمة حرب تموز 2006 مع لبنان، وهو نفسه الذي كتب في استقالته عام 2007 أنه "يجب أخذ العِبر من الحرب"، واليوم هو يقرّ بالخيبة بالقول: "يبدو أنّ عِبر حرب تموز لم تطبّق"، إنّه شخصٌ ينطق بالمعلومة والحقيقة.
17 عاماً مضت على جيشٍ نظاميٍ لا يقلّ عديده عن مليونٍ بين مجنّد واحتياط، ويملك أقوى أسلحة الجو والدفاع الجوي وأفخر المدرعات وأخبث جهاز مخابرات، وأحدث الأسلحة ووسائل الاتصال، وخلفه "أعظم" الدول وكل تكنولوجيا العالم تحت تصرّفه، كلّ ذلك، ولم يتعلّم من عِبر حربٍ على امتداد 79 كيلومتراً فقط مع مجموعة صغيرة مسلّحة كانت أعظم ممتلكاتها العسكرية يومها هو صاروخ الكورنيت المضاد للدروع، مترافقاً مع مجموعة تكتيكات وخدع وأساليب تمويه.
بين لبنان وغزّة، المشهد واحد عندما كان وما زال الحُلم الإسرائيلي واحداً، ففي لبنان 2006 كان الهدف سحق حزب الله، وفي عملية "الرصاص المصبوب" 2008 كان الهدف القضاء على حركة حماس، فلا سُحق هذا ولا قُضي على ذاك، ولا "إسرائيل" تعلّمت ولا جيشها صحّح أخطاءه، بل على العكس تماماً، حماس وحزب الله هما من تعلّم ومن صحّح ومن سدّ ثغراته وطوّر إمكاناته، فكانت حماس 2008 في موقع الردّ تحت عنوان "الفرقان"، وهي اليوم في 2023 في موقع الهجوم تحت عنوان "طوفان".
وكان حزب الله عام 2006 في موقع الدفاع يُظهر بكل فخرٍ مفاجآته الرادعة، وهو اليوم في 2023 في موقع الهجوم يُخطّط للوصول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه، أمّا الكورنيت المفاجأة وما شاكله، فتحوّل اليوم إلى "مُقبّلات ما قبل الوجبة"، بحسب ما يصفها مصدر مقرّب من الجبهة المفتوحة ضد المواقع الإسرائيلية على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة، لكن المفارقة الوحيدة، هي أن غزّة تتفوّق على لبنان بالظروف الجغرافية الصعبة والحساسة.
وبالتالي وصْف حالوتس الوضع بأنه تدهور متراكم، هو وصْف دقيق، كان الأقرب إلى فهمه والكشف عنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عندما وصف كيان الاحتلال بأنه أوهن من بيت العنكبوت، في خطابه الشهير من مدينة بنت جبيل عقب تحرير الجنوب عام 2000، أي قبل 23 عاماً.
فمنذ دحر الاحتلال عن لبنان، أوضحت المقاومة للعالم أجمع أن "إسرائيل" هذه تهوي إلى نهاية إذا استمرّت في مواجهة مقاومة مركَّزة ضدها، وبالفعل، منذ أكثر من 40 عاماً، صمّت المقاومة الإسلامية اللبنانية آذانها العسكرية عن كل ما ليس له علاقة بفلسطين، رمت ببصرها أقصى القوم، وركّزت على هدف واضح ومحدّد ودقيق، إزالة "إسرائيل" من الوجود.
ولأجل هذا الهدف كرّس حزب الله جزءاً كبيراً من طاقاته العسكرية والسياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والمالية لهذه المعركة، فكان تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال وكان انتصار تموز التاريخي، وكان انتشار المقاومة شيئاً فشيئاً في المنطقة يتحقّق، كنتيجة لعامل الردع الذي صنعه هذا التوجّه.
معركة كانت المقاومة الفلسطينية الأكثر اقتناعاً بها كونها مركز القضية، وبنت الأرض المحتلّة، وبكل حواسها لمست إرادتها في كسر عظم المحتلّ، مستفيدة من تجارب المقاومة في لبنان، وطوّرت خبراتها، فآمنت الفصائل الفلسطينية بأنّ هذا المحتلّ لا أساس متين له، فهو يقاتل ليعيش في مواجهة من يقاتل ليُستشهد، وليس هذا بيت شعرٍ يُقال، بل إنه عامل أساسي في هزائم هذا المحتل.
فالمحتل يقاتل بروحٍ إلكترونية لا معنوية، هو بـ "جيشه" النظامي العملاق سيغرق في متاهة جرأة العصابات وتكتيكاتها، وهو باعتماده على تفوّقه التكنولوجي واللوجستي، سيُصاب بالعمى والصمم عندما تُقنص كاميراته وتنقطع اتصالاته، تماماً كما فعلت المقاومة عندما أطلقت عملية طوفان الأقصى، وأيّ عيون إلكترونية هذه العاجزة عن كشف الممرّات العسكرية والأمنية من وإلى غزّة منذ سنين طويلة، تمدّ المقاومة بما تحتاجه من أعتدة ومستلزمات لصناعة مفاجآتها.
وإنّ الاحتلال باستخفافه بعدوّه، سيندم، تماماً كما ندم في هذه المعركة بصراحة، معلناً أنه أخطأ عندما استهان بالتنبيهات المسبقة والتقارير التحذيرية، وهكذا كانت مسيرة هذا الاحتلال على مرّ التاريخ تنقاد إلى هزيمة تلوَ الهزيمة، ولست هنا بوارد تعداد إخفاقات "تل أبيب"، سأدعو القارئ إلى الاطلاع بنفسه على عشرات الاعترافات المنتشرة ضمن تقارير إعلامية، لقادة عسكريين يستعرضون مكامن الضعف والهزالة لدى جيش "إسرائيل"، بالأرقام والمعطيات الميدانية والشهادات، إن كان بمواجهة مقاومة لبنان أو مقاومة فلسطين.
حتّى أنّ الأرقام والمعلومات غير مطلوبة بعد لإثبات مهزلة "جيش" قيل يوماً إنه لا يُقهر، تكفي عملية طوفان الأقصى التي شكّلت لوحةً فوق المستوطنات وتحتها، تمّ فيها القضاء على قوّة إسرائيلية عديدها 4200 جندي، خسرتهم "إسرائيل" في أقلّ من أسبوع، بين قتيل وجريح وأسير وفارّ، وخرقت المقاومة تحصيناتٍ ودفاعاتٍ بمئات ملايين الدولارات بل ومليارات، واغتنمت عشرات الآليات والدبابات والتجهيزات العسكرية الإسرائيلية.
بينما وبعد مرور أسبوعين، ما زالت "إسرائيل العظمى" تبحث عن نصر أو إنجاز بين زواريب غزة وخان يونس ورفح. "إسرائيل" التي كان يخطّط مؤسسها دايفيد بن غوريون لتوزيع جيشها على تلال المنطقة برمّتها وكأنها ملك له، تدرس اليوم خسائرها الكبيرة لو احتلّت صخرةً في القطاع المحاصر. هذه هي "إسرائيل" غير القادرة حتّى على اتخاذ قرار بدخول مساحة أقل من 1% من المساحة المقرّرة لبناء "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات، وهي نفسها "إسرائيل" التي عجزت منذ 17 عاماً عن دخول أكثر من كيلومتر واحد في جنوب لبنان.
وعذراً على الإسهاب في الكلام عن حرب تموز، ولكن تهديدات الاحتلال منذ ذلك الوقت وحتّى اليوم وتهويله بتحويل لبنان إلى ركام وإرجاعه إلى العصر الحجري، يجعل من الضروري مقاربة غزّة وأهداف "إسرائيل" ضدها، بلبنان وأحلام "إسرائيل" فيه، ليتجلّى للعالم اليوم، أنه وعلى ما يبدو، من النيل إلى الفرات سيكون للمقاومة، أمّا "إسرائيل" فستكون أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا الزوال في مكانها، وإمّا الهرب إلى ربّاتها، لتكمل عندهم أغانيها الخيالية من قبيل السيوف الحديدية وغيرها من القصائد.