"إسرائيل" والخلل في معادلة الموالاة والمعارضة
الحديث عن انقسام يهودي عند العدو يعني انقسام المجتمع بأطيافه كافة إلى موالاة ومعارضة بشكل أساسي، وهذا الأمر ينطبق على الحياة السياسية عند العدو، إضافة إلى كونه أمراً طبيعيّاً في أي دولة أو كيان.
وُقِّعت اتفاقية أوسلو، ومنذ 1993 الفلسطينيون مقسّمون بشكل رسمي بين من يرى في المقاومة عملاً سياسيّاً بحتاً، ومن يراها فعلاً لا يمكن فصله عن السلاح. والفرق الأساسي بين هذين الطرفين يكمن في سعي الأوّل إلى توظيف السياسة لتحقيق المكاسب السياسية، وعمل الثاني على توظيف السياسة لخدمة العمل العسكري.
إذاً، الفلسطينيون منقسمون حول حاضر فلسطين ومستقبلها، في الوقت الذي ظلّ فيه الاحتلال الإسرائيلي منذ نشأته حتى وقت ليس ببعيد، أرضاً يُبنى عليها مشروع واحد بهدف واحد. فهل لا يزال ذلك ينطبق على "إسرائيل"، أم أن للسياسة والتحزّب والمصالح الشخصية دوراً في حرف بوصلة الحكم في الاحتلال والتي ظلت متوجّهة نحو الحفاظ على ذلك الكيان؟
الحديث عن انقسام يهودي عند العدو يعني انقسام المجتمع بأطيافه كافة إلى موالاة ومعارضة بشكل أساسي، وهذا الأمر ينطبق على الحياة السياسية عند العدو، لكن ما ظلّ يميّز المجتمع الإسرائيلي هو التوافق حول هدف وضع منذ إنشاء الكيان الإسرائيلي ـــــ إن لم تكن "إسرائيل" قد أنشئت في الأساس من أجله ـــــ والاختلاف هو حول الأدوات والطريقة في تحقيق المشروع الصهيوني.
أما الآن، وبعد الأحداث التي حصلت عند العدو في السنوات الأخيرة، فلم يعد الشرخ يقتصر على الاختلاف على الأدوات، إنما بات يتوسّع ليشمل الهدف بحد ذاته. ولشرح ذلك الاختلاف بين تلك المعادلتين بعد التحوّر الذي جرى على ما كان سائداً في الاحتلال الإسرائيلي، لا بدّ من الاستشهاد بحادثة مفصلية حصلت عام 1995.
اغتال اليهودي المتطرّف والذي ينتمي إلى حزب الليكود، إيغال عامير، رئيس وزراء الاحتلال إسحاق رابين عام 1995. وعند النظر إلى ما كتب عن أسباب إقدام ذلك الشاب على اغتيال رابين نرى أن تلك العملية جاءت بعد اتّباع رابين سياسة كانت ولا تزال ثورة بالنسبة إلى المشروع الصهيوني.
فقد استطاع رابين وخلال سنة واحدة توقيع اتفاقيات سلام مع منظمة التحرير الفلسطينية ومملكة الأردن. للوهلة الأولى قد يظهر أن أسباب تلك العملية ليس التغيير في طريقة التعامل مع العرب، بل هو انحراف في نظرة حاكم "إسرائيل" تجاه المشروع الصهيوني، وهو ما قد أراد المتطرّفون حينها أن يسرعوا لسدّ الطريق أمام ما اعتبروه توجّهاً يهدّد ذلك المشروع.
لكن بالعودة إلى رابين نفسه، نجد أنه كان أحد كبار جنرالات الحرب عام 1967، وهو الذي أصدر أوامر تكسير عظام الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى. وهذا ما يضعنا أمام حقيقة أن رابين في الحقيقة كان يسعى إلى تغيير الطريقة وليس الهدف على عكس ما اعتقد المتطرّفون حينها.
أما عن التحوّل الذي حصل بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، فيمكن الملاحظة أن رئيس حكومة الاحتلال الحالي، بنيامين نتنياهو، قد بدأ بمسار أخلّ فيه بمعادلة الموالاة والمعارضة.
فنتنياهو لم يعد يمثّل نسبة كبيرة من الموالاة، إذ حتى الانتخابات الأخيرة، انتخب نتنياهو بأصوات مناصري اليمين الصهيوني، ولكن العنصر الذي ساهم في وصوله إلى رئاسة الوزراء كان اليمين المتطرف ـــــ رغم تشكيله لنسبة صغيرة من الناخبين ـــــ وعندها لم يعد هناك جسم واحد للموالاة، ولا سيما بعد تمكّن المتطرفين في الحكومة من السيطرة على عملية صنع القرار.
لم يكن ما سبق العامل الوحيد الذي أجرى تحوّراً على الحياة السياسية عند العدو، فبعد حكم تخلّلته تظاهرات حاشدة قامت بها المعارضة في السنوات الأخيرة الماضية، بدا واضحاً أمام المستوطنين أولاً والعالم ثانياً أن رئيس الوزراء ذهب بعيداً في سياسته السلبية تجاه المشروع الصهيوني.
فقد ظل نتنياهو برغم عدم استقرار الأوضاع السياسية في "إسرائيل"، يسعى للبقاء في الحكم بأي طريقة خوفاً من الملاحقة القانونية في القضايا الموجّهة ضده، إضافة إلى تخوّفه من نتائج التحقيقات التي ستجري بعد الحرب على غزة، وهذا ما سيؤدي إلى إنهاء حكمه الذي دام لأكثر من عقد بهزيمة كبيرة. والنتيجة الأهم لما سبق هو عمل الثلاثي الحاكم، بن غفير وسموتريتش ونتنياهو، على تشكيل "إسرائيل" التي يريدونها، برعاية حزبهم غير الرسمي، وهم بذلك يكونون قد انحرفوا عن مسار المشروع الصهيوني.
خلاصة لما سبق، استطاع الاحتلال أن يقسّم الفلسطينيين حول شكل فلسطين الذي يريدونه ولكن طوفان الأقصى نقل تلك التجربة إلى مجتمع العدو الذي بات أكثر تباعداً، فالصهاينة كانوا يعملون جميعاً على دعم مشروع "إسرائيل" حتى لو كانوا يعارضون الحزب الحاكم في "إسرائيل"، لكن الآن بات من يسيطر على الكيان لديه مشروع حزبي وطائفي خاص به.