يحيى عياش، المقاتل النموذج
يحيى عياش نموذج العقل الفلسطيني المقاتل الذي لن تنطفئ جذوة اسمه طالما يقاتل الفلسطينيون.
"تحت الشباك فيه 3 جنود، والصبح الدنيا، بِقول يا أبوي شو هدول!، قلت هدول يهود، ما شفتلك إلا انه راح جاب السكين وبقول لي؛ يا أبوي بدنا نقوم نذبحهم، قُوم".
هذا ما أخبر به عبد اللطيف عيّاش عن حوار دار بينه وبين نجله يحيى في صباح أحد أيام الطفولة لمن سيصبح لاحقاً العقل المدبر لأبرز العمليات الفدائية ولفاتح عهد التصنيع العسكري للمقاومة الفلسطينية؛ يحيى عياش نموذج العقل الفلسطيني المقاتل الذي لن تنطفئ جذوة اسمه طالما يقاتل الفلسطينيون، اسمه الذي حُفِر في وجدان شعبه بالحب والفخر، وكُتِب على وجه عدوه بالدم، ووصل ليتجذر في أرض فلسطين المحتلة منطلقاً من مرابض الأبطال في غزة راكباً صهوة المجد مكتوباً على الصاروخ "عيّاش 250" الذي سُميّ تيمناً بيحيى وأطلق للمرة الأولى في معركة "سيف القدس" البطولية ليشكل مفاجأة صادمة للعدو –كما اعتاد يحيى أن يفعل- في استهداف مطار "رامون" الصهيوني في جنوب فلسطين المحتلة وإخراجه عن الخدمة، ليكشف فعلياً أن صواريخ أبناء يحيى عياش تغطي كل الأرض المحتلة إذا ما انطلقت من غزة.
مرت 27 عاماً على استشهاد "المهندس"، القيادي البارز في كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، الرجل اللغز والذي شكّل الوصول إليه والتخلص منه أولوية قصوى لدى أجهزة الأمن الصهيونية، الحاصل على شهادة بكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة بيرزيت، والذي فتح فعلياً عهداً جديداً بتطويره مهارة عالية في تصنيع العبوات الناسفة وهندسة التفجيرات مما أكسبه لقبه "المهندس" بجدارة فائقة.
هذه المهارة التي ساهمت بشكل واضح ومدوٍّ في إحداث نقلة نوعية في أسلوب العمليات الفدائية ضد العدو الصهيوني. لقد هندس يحيى عياش موت الصهاينة ورعبهم على أرض فلسطين التي حاولوا أن يجعلوا فيها كيانهم اللص آمناً، تحت عنوان "المهندس" أنتجت شبكة الميادين وثائقياً ثرياً بالمعلومات والشهادات والاطلاعات الحصرية والعمل الدؤوب، أحيل القارئ هنا إلى هذا العمل الذي أضاء على تفاصيل عمل وحياة الشخصية الفلسطينية التي جسّدها يحيى عياش وكانت بامتياز شخصيةً مرحلة.
إصرار على تفجير العمق الصهيوني بالنار
كان يحيى قد تحرك للعمل المقاوم المسلح مبكراً وبشكل منفرد في بدايات عام 1991 كما تحدث زاهر جبارين -رفيق يحيى في العمل المسلح ومسؤوله المباشر وأحد قادة كتائب القسام العسكريين في الضفة سابقاً، وعضو المكتب السياسي في حركة حماس حالياً-في أكثر من مناسبة للتوثيق. فقد هاجم الاحتلال بتخطيط وتنفيذ فردي في عمليتين، الأولى كانت كميناً لجيب عسكري صهيوني إلى جوار مسقط رأسه بلدة "رافات" وجرح 3 جنود، والثانية تفجير عبوة في نقطة مراقبة يومية للجنود مقابل جامعة بيرزيت، أدى التفجير بالاحتلال إلى إلغاء وجود الجنود هناك.
قادت جهود "المهندس" مع مجموعة صغيرة من رجال الرعيل الأول في القسّام هم زاهر جبارين وعلي عاصي وعدنان مرعي إلى أخذ الانتفاضة من هبّة شعبية مستمرة في وجه الاحتلال إلى عمل عسكري موجّه ومنظم يستهدف العمق الصهيوني ويدخل في نمط جديد من العمليات هي سلسلة التفجيرات المعتمدة على العبوات الناسفة التي يتم تصنيعها باستخدام مواد كيمائية أولية موجودة في الأرض المحتلة ويمكن تحويلها إلى قنابل شديدة الانفجار.
بدأ "المهندس" في أواخر عام 1992 بوضع العمق الصهيوني هدفاً للعمل المسلح والتفجير الصاخب الذي سيزرع الرعب في قلب الكيان ويصبح كابوساً للاحتلال، فجهّز العبوات التي قُدّر وزنها بـ 40 كيلو غراماً من المواد المتفجرة والتي ربطها بجهاز تفجير و4 أسطوانات غاز لضمان زيادة قوة تأثير الانفجار. وقد تم تجهيز العبوات ووضعها في حافلة صغيرة من طراز (فان- فولكسفاغن) تحمل لوحات رقم صفراء اللون -إسرائيلية- تم الاستيلاء عليها من "تل أبيب" يوم الجمعة 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1992.
وبالنسبة لهذا التاريخ يقول الصحافي الصهيوني أليكس فيشمان إنه بداية ما أسماه "قصة الحب التي يعيشها المهندس مع الحافلات الإسرائيلية"، وذلك في مقاله الطويل الذي نشره في صحيفة "معاريف" تحت عنوان "اعرف عدوك: المهندس هو المطلوب الأول".
جاءت باكورة هدايا العيّاش التفجيرية الصاخبة في نيسان/أبريل 1993 حين فجَّر الاستشهادي ساهر تمَّام سيارته المفخخة داخل مقهى يرتاده الجنود الصهاينة في مغتصبة «ميحولا» القريبة من مدينة بيسان المحتلة فقتل 2 منهم وأصيب 8 بجراح مختلفة. وتوالت عمليات العيّاش ورفاقه ومعها تزايد الرعب الصهيوني. ففي الأول من تمّوز/يوليو من العام نفسه أربك العيّاش ورفاقه في كتائب القسام كل حسابات الصهاينة وأرهقوا أمنهم في العملية الشهيرة في القدس المحتلة "عملية التلة الفرنسية" التي كانت تهدف لاختطاف حافلة صهيونية وأخذ ركابها رهائن لعقد صفقة تبادل.
نفذ العملية الشهيدان ماهر أبو سرور ومحمد الهندي -استشهدا أثناء العملية-وكان معهما صلاح عثمان الذي تم أسره، وكانوا يحملون حقيبة ظهر يوجد فيها متفجرات و5 قنابل يدوية وعبوة ناسفة كبيرة ومسدس وبندقية M16. بصمات العيّاش كانت واضحة في هذه العملية التي خطط لها الشهيد القائد محمد رشدي، لم تنجح العملية في هدفها المخطط له، وقد أدت إلى مقتل صهيونيين اثنين وجرح آخرين.
ردت حماس على مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف التي اقترفها جيش الاحتلال في الخليل في شباط/فبراير 1994 بسلاح العيّاش المفضل. الاستشهادي رائد زكارنة يفجِّر سيارةً مفخخةً قرب حافلة صهيونية في مدينة العفولة في نيسان/أبريل من العام نفسه؛ فيقتل 8 صهاينة، ويجرح ما لا يقل عن 30 آخرين.
بواسطة هاتف نقّال وعميل! هكذا اغتال الاحتلال الإسرائيلي المهندس الفلسطينيّ يحيى عياش في 5-1-1996#يحيى_عياش#صاروخ_عياش#الميادين_Go pic.twitter.com/04TI5wIAME
— Go الميادين (@AlmayadeenGO) January 5, 2023
بعد عدة أيام فقط يفجِّر الاستشهادي عمار عمارنة شحنةً ناسفةً مثبتةً على جسمه داخل حافلة في مدينة الخضيرة داخل الأراضي المحتلة؛ فيقتل 5 ويجرح العشرات. لتكون سلسلةً من الأعمال الفدائية التي وضعت المؤسسة الأمنية الصهيونية في حالة طوارئ مستمرة، حتى كانت العملية الفدائية القنبلة في "ديزنغوف" في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه. الاستشهادي صالح نزال، يفجِّر نفسه داخل حافلة ركاب مما أدى إلى مقتل 22 صهيونياً، وجرح ما لا يقل عن 40 آخرين، ليصبح العيّاش وقنابله الكابوس الأقسى على الصهاينة في تلك المرحلة.
بعد شهرين فقط واصل العيّاش إرسال النار إلى قلب الكيان، فكانت عملية الشهيد أسامة راضي-وهو شرطي فلسطيني وعضو سري في مجموعات القسام- الذي فجِّر نفسه قرب حافلة تقل جنوداً في سلاح الجو الصهيوني في القدس وجرح 13 جنديّاً. ثم في تمّوز/يوليو 1995 وداخل حافلة ركاب صهيونية في "رامات غان" بالقرب من "تل أبيب"؛ يفجر مقاتل من مجموعات "تلاميذ العيّاش" شحنة متفجرات مثبتة على جسده، مما أدى إلى قتل6 وجرح 33 آخرين. وقبل أن يتنفس الصهاينة جيداً؛ في آب/أغسطس من العام نفسه باغتتهم المجموعات نفسها بتبنِّي هجوم فدائي آخر استهدف حافلةً صهيونية للركاب في مدينة القدس المحتلة، مما أسفر عن مقتل 5 وإصابة أكثر من 100 آخرين بجروح مختلفة.
الاستشهاد، ولادة العيّاش النموذج
«إن نجاح يحيى عياش بالفرار والبقاء حوّله إلى هاجس يسيطر على قادة أجهزة الأمن ويتحداهم، فقد أصبح رجال المخابرات يطاردونه وكأنه تحدٍ شخصي لكل منهم، وقد عقدت اجتماعات لا عدد لها من أجل التخطيط لكيفية تصفيته، لقد كرهته، ولكنني قدّرت قدرته وكفاءته» هكذا تحدث الجنرال "جدعون عيزرا" في مقابلة أجراها مع "معاريف"، وهو نائب سابق لرئيس "الشاباك" آنذاك.
نجح العدو في الوصول إلى "المهندس" باختراق دقيق ومهم في الجسم التنظيمي المحيط بالرجل، هذا بعد أن كان قد وصل إلى قطاع غزة سراً لاشتداد حملة المطاردة الأمنية التي كانت تستهدفه في مدن الضفة المحتلة مع تصاعد العمليات، ليرتقي العيّاش أثناء المحادثة الهاتفية الأخيرة العالقة في أذهان كل عشاق "المهندس"، محادثة العيّاش مع والده الحاج عبد اللطيف والتي أجراها ليزف له الخبر السعيد بقدوم مولود يحيى الثاني والذي اختار له اسم عبد اللطيف -بدّل الأهل الاسم لاحقاً إلى يحيى- انقطعت بفعل شحنة تفجيرية كانت مجهزة في الهاتف الذي أوصله العميل الصهيوني الذي رتّب المكالمة ليحيى، فقضى "المهندس" شهيداً موصول الذِكر حي النموذج فاتحاً لعهد جديد من الثأر.
رصدت مصادر صهيونية -في ذلك الوقت-أرقاماً لما قالت إنه مجموع ما قُتل بيد "المهندس" وتلاميذه، 76 قتيلاً صهيونياً، وجرح ما يزيد عن 400 آخرين، وطرحت أن خطورة عيّاش لم تكن في عدد القتلى الصهاينة فحسب، بل في عدد التلاميذ الذين دربهم وخلّفهم وراءه.
كان تشييع يحيى عياش استفتاءً جماهيرياً حاشداً، فقد خرج زهاء 100 ألف فلسطيني في قطاع غزة وحده يحملون جثمان الرجل الذي لطالما مثّل في مخيّلهم الاجتماعي أسطورة حية موجودة تتنقل وتثأر من الاحتلال، وقد خرجت جماهير غفيرة في مدن الضفة الغربية المحتلة للسير في تشييع رمزي كبير للشهيد الكبير، بينما أشعل اغتيال العيّاش شرارة موجة عمليات ثأر نفذتها المقاومة خلّفت عشرات القتلى والجرحى، هذا بعد أن ترسخت صورة "المهندس" أنموذجاً بين عيني كل فلسطيني ورمزاً ثورياً فذاً لكل مقاومٍ حمل السلاح ليحرر وينتصر، لقد غدت الكوفية الحمراء التي توشّح بها العيّاش أيقونةً بعد أن أحاطت بعنق الذي أرّق الاحتلال وأرعب تجمعات المستوطنين وحياتهم.