هويّة لبنان.. ما بين العولمة والحداثة

لأنّ الثقافة هي الركن الأساسي في تحديد هوية الدول ومساراتها المستقبلية من باب تأثيرها على المجتمعات ووعي الشعوب، كانت هي الهدف الأساسي الذي سُخّرت له كل الإمكانيات المادية والفكرية والإعلامية. 

  • الخطاب التطبيعيّ استثمار جديد للصهاينة في لبنان
    الخطاب التطبيعيّ استثمار جديد للصهاينة في لبنان

إذا أردنا أن نبحث عن حلّ للمعضلة اللبنانية من "خارج الصندوق" الذي يغرق فيه أغلب اللبنانيين كما الخارج "المهتم" لأمرنا لهدف اجتراح الحلول، والتي ستكون على الأغلب "ترقيعيّة" لأزمة عمرها من عمر دولة لبنان الكبير، يجب علينا أن نتأمّل كثيراً ونقرأ أكثر عن تاريخ الأزمات في لبنان وتفرّعاتها وارتباطها ببعضها البعض، والأهم أننا نحتاج لدراسة ذهنية كل فئة لبنانية متميّزة عن الأخرى بأفكارها ومنفردة بمشاريعها وطموحاتها، إن وجدت. 

ولأنّ الأمر ليس بهذه السهولة، تردّدت في الغوص بهذا البحث، ولأننا بمعظمنا قلقون على مستقبل لبنان بسبب وضعه الراهن وكثرة أزماته وغياب الأفكار المبدعة والحلول غير الاعتيادية على مستوى معظم السياسيين، ولأن الساحة الإعلامية لا تتسع للكثير من المفكّرين، وهم قلّة، ويحتل معظم شاشاتها المحللون السياسيون الذين يتنافسون في نشرات الأخبار والبرامج على سبق صحافي متعلق بمعلومة مسرّبة من لقاءات السفراء والرؤساء، قرّرت إذاً أن أشارككم بقراءة متواضعة لعلها تنير في عقلنا الجمعي فكرة جديدة ولو بسيطة. 

لنبدأ أوّلاً بتعريف العولمة لأنها ستكون منطلقي والنقطة الارتكازية في هذا المقال؛ العولمة ببساطة قامت على فكرة زوال الحواجز السياسية والاقتصادية والثقافية بين الدول، ولأنها تمسّ بالهوية الوطنية لأي دولة، وتنتج عنها صراعات لا تنتهي بين أبناء الشعب الواحد حول تحديد الهوية، كان من المنطقي الربط بينها وبين أزمة لبنان الحالية كما أزماته السابقة.

لبنان الذي يتمتّع بتنوّع مميّز في مجتمعه، من النواحي كافة، دينية كانت أو ثقافية ، فإن وجود بعض الأفكار السلبية التي تحاول بشكل مستمر أن تجد لنفسها ساحة سياسية لتعبّر من خلالها عن رؤيتها وان كانت غير داعمة لفكرة قيامة لبنان الموحّد والسيد والحر، إلا أنها كانت دائماً، أقلّها من الناحية الفلسفية، حاجة ضرورية لتطوير الفكر السياسي للكثير من القوى الوطنية والمفكرين، وهذا بالطبع كان مشروطاً بأن يقوم في رعاية هذا التنافس بين الفكرة الوطنية ونقيضها  نظام سياسي عصري يحافظ على هذا التنوّع وينقّي نفسه من الأفكار السلبية بين حين وآخر.

لنعد قليلاً إلى بداية عصر العولمة في المرحلة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي تزعّمت فيها ومن خلالها الولايات المتحدة الأميركية العالم. في تلك الفترة التي كان العالم منقسماً فيها بين عالم مدمّر ومنشغل في لملمة آثار الحرب، وعالم يرزح تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والمجاعات، كالتي حصلت في لبنان وسوريا في حينها، كانت واشنطن آنذاك تعمل بشكل حثيث ومخطط لبدء المراحل الأولى لتطبيق العولمة انطلاقاً من "مشروع مارشال" لإعادة إعمار أوروبا ودول أخرى حول العالم، مستغلةً بذلك حاجة هذه الدول للمساعدات المالية واللوجستية. 

ولأنّ الثقافة هي الركن الأساسي في تحديد هوية الدول ومساراتها المستقبلية من باب تأثيرها على المجتمعات ووعي الشعوب، كانت هي الهدف الأساسي الذي سُخّرت له كل الإمكانيات المادية والفكرية والإعلامية. 

لبنان المتواضع بحجمه وجغرافيّته، والبعيد نسبياً عن القارة الأميركية، كان أيضاً هدفاً للعولمة في تلك المرحلة، باعتراف الكثير من المسؤولين الأميركيين، بمن فيهم أحد مؤسّسي وكالة الاستخبارات الأميركية، مايلز كوبلاند، في كتابه "لعبة الأمم"، والذي تحدّث فيه عن كمّ كبير من المعلومات الاستخباراتية والأمنية التي ميّزت حقبة انتقال لبنان وسوريا من الانتداب الفرنسي إلى عصر الهيمنة الأميركية، والتي كانت العولمة الثقافية جزءاً مهمّاً فيها. وهذا كان الحال مع "إسرائيل"، فما إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين إلّا خطوة أميركية متقدّمة للتحكّم بنسق العولمة في منطقتنا. 

طبعاً اليوم لسنا بحاجة إلى قراءة الكثير من الكتب والمقالات لندرك أدوات العولمة وآثارها على لبنان والمنطقة. فبالعودة إلى حاضرنا، بلا شك إن هناك رابطاً قوياً بين ما يحدث في لبنان من شلل سياسيّ   وانقسام مجتمعي وطائفي، وبين المشروع الأميركي العالمي الذي ارتكز على العولمة. 

انطلاقاً من تنوّع المجتمع اللبناني، وبتعريفنا للعولمة وأهداف مؤسّسها وراعيها الغربي، فبدل أن يشقّ لبنان طريقه نحو الاستفادة من حالته المميّزة عبر إنشاء نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يستغلّ التنوّع فيه بأفضل الطرق الممكنة، نجده اليوم يرزح تحت وطأة الأزمات والصراعات المتكرّرة بين فترة زمنية وأخرى، من دون أن يكون بمقدوره استخلاص العبر من ويلات الحرب الأهلية ومشاكله المدمّرة.

إذاً، ما علاقة العولمة في كل ما ذكرته؟

العولمة هي بمثابة العصا السحرية التي جعلت التنوّع نقمة بدل أن يكون نعمة وحافزاً للحداثة والتطور، فمن خلال الغزو الثقافي والسياسي، حاول الغرب جاهداً تلميع صورته، وعمل، ولا يزال، على الترويج لقيمه وثقافته على حساب قيم وثقافات الشعوب الأخرى.

وللمفارقة، أن واشنطن سعت كثيراً لخلق تنوّع فسيفسائي لها في مجتمعها من خلال الهجرة واستغلال قدراتها الترويجية والاقتصادية في جذب العقول، لتبني عليه دعايتها السياسية القائمة على "قوة المثال الأميركي"، بينما في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام ولبنان خاصة، هناك تنوّع طبيعي من دون أيّ تدخّل بشري، لم نستطع تسخيره لبناء دولتنا. بمعنى، العولمة سعت لجذب التنوّع إلى الداخل الأميركي مقابل تدميره والتلاعب به في موطنه الأصلي. 

 أما الأفكار السيئة التي اندرجت تحت إطار التنوّع في لبنان فوجدت رافداً خارجياً لها، لتصبح على أثرها هذه الأفكار أكثر ظهوراً وأكثر حضوراً في الساحة السياسية اللبنانية، ولديها من يمثّلها في النظام اللبناني، كما أنها استطاعت لاحقاً أن تمتلك السلاح لتقاتل في الحرب الأهلية، إلى أن أصبحت قادرة اليوم وبشكل كبير على عرقلة أي نوع من النهوض والتقدّم في لبنان. 

وبالتالي فإن هذه الأفكار الخبيثة والمدمّرة والتي أصبحت أحزاباً وتيارات سياسية فيما بعد، تم استخدامها من خلال الانفتاح الثقافي والإعلامي والسياسي وتحت حجّة العولمة من قبل أطراف خارجية متعددة، لأهداف تخدم هذه الأطراف حصراً. وأصبحنا في صراع مستمر لا ينتهي حول تحديد الهوية، وعند نهاية كل صراع، مهما كان شكله وحجمه، كانت المعادلة السائدة في لبنان هي "لا غالب ولا مغلوب"، وهذا ما تمّ تكريسه في تسوية الطائف التي أنهت الحرب الأهلية.

ورغم أن أغلب اللبنانيين الذين انغمسوا في العولمة الثقافية أو كانوا ضحيةً لها، يحملون شعارات وطنية، على سبيل المثال وليس للحصر؛ "لبنان أوّلاً"، "الجمهورية القوية"، إلا أنها في جوهرها كانت ولا تزال تهدف إلى تجريد لبنان من قيمه وعاداته وتقاليده، وتساهم في انخراطه والتحاقه بالثقافة الغربية، التي هي على نقيض، في الكثير من النواحي، مع الثقافة المشرقية أو العربية. 

هل هناك حلّ؟ أم أننا لا نملك إلا الاستسلام للواقع الذي فرضته واشنطن، إلى أن يقضي الصراع الدائر اليوم بين الشرق والغرب حلاً كان مفعولاً؟ 

لا أحد يملك في لبنان ولا في المنطقة العربية الحلول السحرية التي تنقلنا من واقع إلى آخر في وقت قصير، ولأن أزمتنا وجودية ومعقّدة إلى أبعد الحدود، فالحلّ بطبيعة الحال سيكون معقّداً وصعباً. 

يعرّف الأديب والفنان الفرنسي بودلير الحداثة كما يلي؛ الحداثة نصفها ثابت وخالد ونصفها عابر ومتغيّر، ويجب ألّا نبغض النصف الثاني، فلا تكون الحداثة حداثةً إذا أغفلت أهمية أحد النصفين، أو إذا اهتمّت بالمتغيّر وأهملت الثابت والعكس صحيح.

فالأرض مثلاً والقيم والتنوّع الديموغرافي والديني والثقافي كلها تندرج تحت إطار النصف الثابت، فلا يمكن لأحد أن يدّعي الحداثة إذا قام بالتلاعب بمجموعة من القيم لمجتمع ما، أو قام بتطوير النظام السياسي، وهو النصف المتغيّر، على حساب الانتماء الديني والثقافي لهذا المجتمع. وبالتالي وبالعودة إلى لبنان، الحداثة تتحقّق في تمسّكنا بالتنوّع الديني والثقافي والفكري والقيمي، وبتطوير النظام بحيث يرعى ويحترم الثوابت والقيم المتنوّعة.

وهنا نستخلص أن العولمة فعلت كل ما يعارض مفهوم الحداثة، ليس فقط في لبنان بل في معظم الدول العربية التي فتحت أبوابها للمشروع الأميركي القائم على سرقة الهوية ومصادرة ميزاتها. 

انطلاقاً ممّا سبق، فإن لبنان يحتاج لأن يحدّد هويته الوطنية القادرة على تحصينه من أي محاولة خارجية تهدف لخرق المجتمع والتلاعب بحاضره ومستقبله. وهذا لا يمكن أن يتحقّق إلّا من خلال الخروج من المتاهة التي وضعنا بها الغرب نفسه عبر سياساته الخبيثة خلال ما يقارب القرن من الزمن. ولو كلّفنا ذلك أثماناً باهظة، فأن يدفع الشعب اللبناني فاتورة الانهيار الاقتصادي والانقسامات الداخلية من دون أن يكون هذا الثمن مسخّراً لقيامة لبنان بهويته الوطنية، فهذا سيكون قمّة الفشل.  

في الخاتمة، لست من الذين ألزموا أنفسهم بحدود سايكس-بيكو، ولأنني أقدّر كثيراً الفكر القومي للراحل العظيم أنطون سعادة، أرى أنه ليس هناك إمكانية لعودة “سوراقيا” التي أفنى سعادة عمره في وضع أسسها والعمل من أجل تحقيقها، إلا من خلال إيجاد هوية وطنية لبنانية لديها كامل الاستعداد مستقبلاً لتكون منطلقاً ثقافياً وواقعياً للانخراط بمشروع قومي "سوراقي" وربما عربي. 

بينما في ظل التقوقع الطائفي والمذهبي، ومن دون أي مرحلة انتقالية وطنية لا يمكننا بأي حال أن نحقّق حلم سعادة الخالد. ودعونا نتذكّر إحدى مقولاته: سيرى الشعب اللبناني أنّ مسألة إسقاط وزارة ورفع أخرى لا تـحلّ مشاكل.