هل يتحقق حلم بوتين بعالم متعدد الأقطاب وبتفكيك الإمبراطورية الأميركية؟
الحرب الأوكرانية الروسية كانت فرصة مواتية للرئيس الروسي لإحداث هذا التغيير الذي نادى به منذ زمن.
يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصرّ على تغيير العالم من أحادي القطب إلى أقطاب متعددة، فقد سئم العالم أجمع مما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية من عربدة وعبث على مستوى علاقاتها بالدول الكبرى والصغرى، وهي تتصرف كأنها الحاكم الأوحد والشرطي الذي ينبغي أن يُسمع كلامه أو القاضي الذي يقضي ولا طعن في حكمه.
وما يدل على هذا الإصرار هو ما يقوم به الرئيس الروسي اليوم من مواجهة قوية مع الغرب برمته الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، التي تزعم أنها ستنتصر في الحرب رغم كل المعوقات، غير أن المؤشرات كلّها تشير إلى أنها بدأت تتعب جراء هذه الحرب التي تكلفها عشرات المليارات. وقد أرهقتها تصرفات بوتين العتيدة، الذي لم يُظهر أي ضعف حتى الآن، رغم التصريحات الأوكرانية والأميركية بأن روسيا بدأت تضعف اقتصاديّاً.
ومما يشجّع بوتين على مواصلة التحدي هو وقوف الدولة العظمى الأخرى، أي الصين، إلى جانبه، وتحذيرها أميركا من أي استفزاز آخر للتدخل في شؤونها عبر تايوان، ونصيحتها لها بأن تلزم حدودها، وهي القوة الاقتصادية الصاعدة والآخذة في التمدّد يوماً بعد يوم، بل إنَّ كوريا الشمالية، حليفتهما أيضاً، دخلت على الخط، وأرادت استفزاز المارد الأميركي عبر تجارب الصواريخ البالستية التي اخترقت الأجواء اليابانية للمرة الأولى، وأحدثت إرباكاً كبيراً في المعادلة الأميركية في المنطقة وغيّرت حساباتها.
الحرب الأوكرانية الروسية كانت فرصة مواتية للرئيس الروسي لإحداث هذا التغيير الذي نادى به منذ زمن، عندما طالب الأمم المتحدة بإصلاح مجلس الأمن الدولي، وذلك بتوسيع رقعة الدول التي تملك صلاحية الفيتو، ومنح الدول الناشئة الفرصة للدخول في معترك القرار العالمي عبر هذه الزيادة التي باتت مؤكدة بحسب بوتين، ولا يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تتصرف وحدها في كل القضايا العالمية المتعلقة بالسِّلم والحرب.
وقد شقّ بوتين بذلك عصا الطاعة بعدما كان موقفه يتسم بالمرونة إلى حدّ ما، لكنه يُخفي في نفسه ما لا يبديه. وحان الوقت، بحسب رأيه، ليتغير العالم من جديد نحو الأفضل، من خلال رسم خارطة جديدة تمنح الدول الكبرى في العالم القدرة على أن تتصرَّف بشكل جماعي لا بشكل أحادي، وهذا فعلاً ما أغضب أميركا؛ القوة النووية الأولى في العالم.
ويبدو أنَّ الرئيس الروسي لا يبالي بالتهديدات الأميركية المتكرّرة، كما يبدو أنه مستعدّ للمواجهة، وإن أدت به إلى حرب نووية. وقد ذكر ذلك غير مرة، وبيّن أنه لا يتردد في الضغط على الزرّ النووي إذا رأى بلاده تتعرض لهجوم خارجي، أياً كان نوعه، وهو تهديد خطر للغاية، ولا أعتقد أن الرئيس الروسي ذا العيون الحادة والجادة سيستسلم بسهولة لإملاءات الإدارة الأميركية، مهما كانت درجة تهديداتها.
وفي الوقت ذاته، لا يمكن أن يسعى بوتين لتدمير العالم من أجل الانتقام والثأر، فهو يريد أن تكون للعالم رؤية جديدة محورها أقطاب متعددة لا قطبٌ واحد، وهو أمر جديد ومختلف وغير معهود على الولايات المتحدة الأميركية، لكن الثأر الذي يسعى إليه بوتين في هذه المرحلة هو الحطّ من غرور الولايات المتحدة الأميركية وكسر هيبتها المبنيّة على التحكّم في قضايا العالم، أو بلغة أخرى تفكيك الولايات المتحدة الأميركية، كما حدث للاتحاد السوفياتي عام 1991.
لقد رأى أن الأوان آن حتى تنتهي أميركا وتتفكك كما حدث للاتحاد السوفياتي، وينبغي أن يكون العالم اليوم أكثر ديناميكية، وأن يتحول إلى عالم متعدد الأقطاب يمنح الدول الأخرى ذات القيمة الاقتصادية الكبرى أهمية خاصة تكسبها مكانة دولية بموجب تفويض أممي وعالمي. لذلك، لا يمكن أن يتراجع في حربه على أوكرانيا إلا إذا حقّق أهدافه كاملة. هذا الإصرار هو الذي يفسر إطالة أمد الصراع بين أوكرانيا وروسيا، بل بين روسيا والغرب.
إذاً، هي حرب من أجل تحقيق حلمٍ لطالما راود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ اعتلائه عرش الحكم في روسيا الاتحادية، فقد تأثر كثيراً بانهيار الاتحاد السوفياتي، وهو يرى في إحيائه سبيلاً لفرض احترام روسيا اليوم، ويراهن بتحركاته وتحالفاته على تفكّك الولايات المتحدة.
وفي حال تحقق ما يريده، فإنه يكون قد حقّق حلمه، فالهدف من الحرب الدائرة في أوكرانيا ليس أوكرانيا نفسها، بل تلقين الغرب وأميركا درساً في وجوب الاحترام والعمل على تنويع الزعامات.