"نظرية" السيد نصر الله تسيطر على العقل الصهيوني
إن انتصارات ما بعد 1982 و1986، وفشل عدوان تموز 1993، وعدوان نيسان 1996، وانتصار لبنان عام 2000 و2006، أبدعت نموذج خريطة معرفية إدراكية جديدة رسمها السيد حسن نصر الله بنظريته "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت".
يروي صاحب "الموسوعة اليهودية والصهيونية" عبد الوهاب المسيري حكاية تؤكد أن تعديلاً نموذجياً حصل في التفكير الإسرائيلي من رؤية "الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر" إلى جيش سيطرت عليه حالة الخوف والهزيمة من المقاومة.
يقول المسيري: "كنت أقف عند الحائط اللعين الذي يفصل رفح المصرية عن أختها الفلسطينية، ولم تكن هناك أي حركة نتيجة حظر التجول. كان كل شيء شبه ميت إلا من 3 سيارات إسرائيلية مصفّحة تسير متقابلة في صف واحد. وهناك أمامها سيارة فارهة تسير بسرعة خاطفة وتظهر كل ربع ساعة".
ويتابع: "حاول صحافي من القاهرة أن يفسر لي ما يجري، فقال: انظر إلى الإسرائيليين تسير سيارتهم الواحدة وراء الأخرى، وسيارة الحاكم العسكري لا تتوقف عن التفتيش عنهم بكفاءة عالية".
هنا، ضحك شرطي مصري من المسؤولين عن المعبر عندما سمع شرح الصحافي القاهري، وصحح له ما يرى بطريقة تختزل تعديل النموذج الإدراكي المعرفي للجيش الإسرائيلي من "الجيش الذي لا يقهر" إلى جيش مرعوب: "السيارات الثلاث المتجاورة تسير بسرعة لأنها في حالة هلع من الفلسطينيين، فهم خائفون من أن ينفرد بهم السكان العزل الموضوعون تحت حظر التجول. أما الحاكم العسكري، فيفوقهم جبناً وهلعاً. لذا، فهو يجري بسيارته بهذه السرعة الجنونية الجبانة، ثم أشار الشرطي إلى بوابة المعبر، قائلاً: أما هذه البوابة، فهي بوابة النصر التي عبر منها صلاح الدين لتحرير القدس وفلسطين وبلاد العرب".
وإذا ما أردنا المقارنة بين الأستاذ الصحافي القاهري والشرطي المصري، فشتان ما بين الرؤية البصرية المحدودة للصحافي التي تحول الوقائع إلى هزائم والانتصار النفسي للشرطي الذي حول المشاهد نفسها إلى رمز للعزة والكرامة. للأسف، تأخّر الباحثون العرب كثيراً عن دراسة الإبداع الجمعي لحزب الله، على الرغم من أن أمين عام حزب الله أقسم غداة انتصار عام 2000 في احتفال النصر في مدينة بنت جبيل الجنوبية في لبنان قائلاً: "والله، إن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت".
لقد أحدث انتصار عام 2000 صدمة ثانية لـ"إسرائيل" بعد صدمة حرب 1973. وبحسب رئيس وزراء العدور مناحيم، فإنَّ الغزو الصهيوني عام 1982 جاء لـ"يشفي الناس تماماً من صدمة حرب يوم الغفران... والبديل من الغزو هو "تربلينكا"، أي معسكر الإعدام النازي قرب وارسو".
ومن غير لفّ ولا دوران، لم يأخذ انتصار عام 2000 حقّه في الأبحاث والدراسات، كما أخذت انتصارات الجزائر وفيتنام وجنوب أفريقيا حقّها في كشف كيفية انتصاراتهم على محتلّيهم.
ما نود قوله إنّ السيد حسن نصر الله نجح في نظريّته "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت" في أن يغير نموذج الإدراك الانهزامي الذي سيطر علينا جراء الهزائم العربية المتتالية ضد "إسرائيل": حروب 1948، 1956، 1967 وما تلاها من حرب الاستنزاف، وحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، فعدل النموذج إلى خريطة إدراك الانتصار على "إسرائيل"، من خلال فشل العدو الصهيوني في حروبه التي شنها على لبنان عام 2006، وعلى غزة في الأعوام 2008، 2012، 2014، 2021، فحلت نظرية السيد نصر الله محل نظرية الجدار الحديري التي ظلّت تصاحبنا كعرب منذ حرب 1948 وحرب 1956 إلى حرب 1967 وحرب الاستنزاف.
وما يسهّل نجاح نظرية "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت" بامتياز أنَّ "إسرائيل" - كما يذكّر المفكر العربي الفلسطيني الدكتور سيف دعنا - والانتصار عليها هو مجرد حدث عارض في سلسلة من المخاطر الكبرى التي تغلبت عليها الأُمة الإسلامية والعربية في سياق التحديات الهائلة التي واجهها العرب والمسلمون في تاريخهم الطويل وانتصروا عليها.
ولهذا، يكون أسوأ تقدير هو أن نشبّه احتلال "إسرائيل" أرضاً محدودة هي فلسطين على مساحة 27 ألف كيلومتر مربع بانهيار دولة الموحدين في الأندلس عام 1212 على يد ممالك الفرنجة في حروب الاستعادة، كما سماها الإسبان، أو تدمير بغداد عام 1258 على يد المغول بقيادة هولاكو.
إنَّ ما أقصده بنموذج الإدراك هو ما يسمّيه عبد الوهاب المسيري "الخريطة المعرفية الإدراكية" التي لها مقدرة توليدية لخبرات ومنظومات أخلاقية ورمزية، ومستودع كثير من الذكريات والصور المُخزنة في الوعي واللاوعي.
إن انتصارات ما بعد 1982 و1986، وفشل عدوان تموز 1993، وعدوان نيسان 1996، وانتصار لبنان عام 2000 و2006، أبدعت نموذج خريطة معرفية إدراكية جديدة رسمها السيد حسن نصر الله بنظريته "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، لتنسف نظرية جابوتنسكي "الحائط الحديدي" التي سيطرت على تفكيرنا لزمن طويل.
وقد أوضح جابوتنسكي حينها، وهو زعيم التيار التصحيحي في الحركة الصهيونية، والملهم الفكري لرئيس الوزراء الأول دافيد بن غوريون، والأب الروحي لحزب الليكود وقياداته المتعاقبة من مناحيم بيغن حتى بنيامين نتنياهو، في مقالين تحت عنوان "الجدار الحديدي"، أنه "لا يجوز حتى الحلم بالتوصل إلى اتفاق بيننا وبين عرب أرض إسرائيل"، وأن العرب في البلاد هم "أمة حية"، فهم لن يتخلوا أو يتنازلوا عن حقوقهم الأساسية، و"أننا فقط إذا ما أقمنا جداراً حديدياً، بمعنى قوة عسكرية كبيرة وقوة عظمى راعية وحامية ومساندة، فربما يرضخ هؤلاء العرب عندئذٍ ويتنازلون عن أرض إسرائيل".
ولأنّ "حساب البيدر ليس كحساب الحقل"، كما يقول المثل، يقفز هنا إلى الذاكرة ما قاله زبيغنيو بريجنسكي بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001: "دخلنا القرن الـ21 بانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990". والشيء ذاته نقوله بأننا دخلنا القرن الـ21 بهزيمة "إسرائيل" في اجتياحها للبنان عام 1982، بعد انسحابها من بيروت، وأتت الهزيمة الثانية لـ"إسرائيل" عام 1986 بعد انسحابها حتى الشريط الحدودي.
لقد هزّت نظرية السيد نصر الله أركان الخريطة الإدراكية الصهيونية التي كانت تتبع أسلوب التزييف والحيل والخداع "بأن فلسطين أرض بلا شعب" و"أن فلسطين أرض الأجداد، وما يحصل ليس احتلالاً، والعودة إليها تأتي بوعد إلهي"... فبدأت الاعتداءات الصهيونية المتتالية من مرحلة السياسة الشارونية بحصار الرئيس عرفات في مقره حتى تاريخ استشهاده عام 2004، مروراً بسياسة التطرف لنتنياهو وحتى اعتداءات لابيد الأخيرة على غزة، فأسلوب الاعتداء على الشعب الفسطيني بشكل قاسٍ ينمّ عن قناعة في اللاوعي الإسرائيلي بأنهم دخلاء على فلسطين المحتلة، ولا يوجد غطاء شرعي وقانوني لوجودهم.
شكَّلت نظرية "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت" حالة عصبية داخل "إسرائيل". وقد عملت في السنوات الـ16 الماضية لمواجهة التأثير السلبي لهذه "النظرية" في المجتمع الصهيوني، وحاولت دحضها مراراً، لأنَّ حزب الله يشكل اليوم أكبر تهديد تقليدي لـ"إسرائيل"، بحسب معهد دراسات الأمن القومي في "تل أبيب".
وقد كان أوَّل من بدأ بذلك هو وزير الدفاع الصهيوني السابق موشيه يعلون الَّذي كان دائماً يمتدح قدرة الشعب الإسرائيلي على الصمود في الصراع الدائر مع الفلسطينيين، والذي اعتاد الظهور في أوساط إسرائيلية مختلفة ليدحض نظرية السيد حسن نصر الله.
واضطُر يعلون مع تصاعد معدلات القلق داخل التجمع الصهيوني في تصريحات نقلتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" في موقعها على الإنترنت (11 شباط/فبراير 2003) إلى الاعتراف بأن قدرة المجتمع الإسرائيلي على الصمود محدودة للغاية، وأقر بصواب نظرية "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت".
وقد عبر يعلون عن رأيه هذا في اجتماع مغلق أمام شخصيات من العاملين في مجال التربية والتعليم في القدس، ووصفت الصحيفة هذه التصريحات بأنها "شاذة"، وبأنها وقعت على مسامع الحاضرين وقع الصاعقة، وهو الأمر الذي دفع يعلون فيما بعد إلى نفي تصريحاته، مدعياً أنها أُسيء فهمها، ومن ثم حُذفت تماماً من موقع الصحيفة.
وفي الأيام الأولى للحرب عام 2006، وفي نشوة الانتصار المرتقب الذي لم يصل إليه العدو، كانت نظرية "بيت العنكبوت" حاضرة في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين ومواقفهم، فقد كان مخططاً أن يلقي رئيس الأركان في حينه دان حالوتس ما سماه العدو الصهيوني خطاب "بيت الفولاذ"، والذي أُعد له رداً على خطاب "بيت العنكبوت" من المدينة نفسها (بنت جبيل) بعد احتلالها، ومن المكان نفسه الذي ألقى فيه نصر الله خطابه الشهير، لكن الانكسار العسكري في المدينة، والفشل في السيطرة عليها، حالا دون الخطاب ودون "بيت الفولاذ".
وفي عام 2008، أصدر الصحافيان في صحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل وآفي يسخاروف كتاباً عن حرب لبنان الثانية تحت عنوان "بيت العنكبوت - يروي قصة حرب لبنان الثانية"؛ الحرب العدوانية التي فشلت فشلاً مدوياً نتيجة صمود رجال حزب الله وبراعتهم وشجاعتهم واستعدادهم للنزال.
وخلال الاعتداء الصهيوني عام 2014، فيما أُسمي عملية "الجرف الصامد"، على قطاع غزة، لم تغِب نظرية "بيت العنكبوت" عن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين ومواقفهم. هاجس النظرية كان قائماً، وكان لزاماً استغلال نتيجة الحرب والدمار الذي لحق بالفلسطينيين لمواجهة النظرية بعد الحرب، فأشار وزير الأمن في حينه، موشيه يعلون (30/09/2014)، إلى أنَّ "إسرائيل استحقت خطاب نصر الله المهين في أيار/مايو 2000، الذي شبّه فيه هشاشة الدولة اليهودية ببيت العنكبوت... لكني أعتقد بأن نتائج عملية الجرف الصامد لن تسمح له بأن يكرر خطاب بيت العنكبوت". وفي عام 2016، أقر بنيامين نتنياهو بصورة غير مباشرة بأن "كل الجهود الإسرائيلية لمواجهة المفاعيل السلبية لوصف نصر الله إسرائيل ببيت العنكبوت لم تحظَ بالنجاح".
ويؤكد المحلل يسرائيل هرئيل في صحيفة "هآرتس" العبرية (أيار/مايو 2018) صحة نظرية "بيت العنكبوت"، ويقول: "أفرجت إسرائيل عبر 3 صفقات استسلام عن آلاف الإرهابيين مقابل إسرائيلي واحد وخمس جثث". والمقصود بصفقات التبادل: صفقة إطلاق الأسرى اللبنانيين عام 2004، وصفقة إطلاق الأسير الشهيد سمير القنطار عام 2009، وصفقة وفاء الأحرار بين حماس والاحتلال الإسرائيلي عام 2011.
يؤكّد أحد المؤرخين الجدد، وهو الإسرائيلي إيلان ببايه في كتابه "عشر خرافات عن إسرائيل"، أن الجيش الإسرائيلي أصبح محبطاً منذ عام 2000 بعد هزيمته المذلة على أيدي حزب الله، بعد التخوف من أن تجعل هذه الهزيمة الجيش الصهيوني يبدو ضعيفاً.
لذا، كانت ثمة حاجة لاستعراض "قوة الجيش الذي لا يقهر" في الحروب التي شنّها، ابتداءً من حرب 2006 على لبنان، وانتهاءً بالحرب على غزة في الأعوام 2008، 2012، 2014، 2021، لتأكيد فشل نظرية "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت".
إن نظرية سماحة السيد نصر الله "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت" عدّلت النموذج الإدراكي، سواء عند الإسرائيلي أو العربي، فـ"إسرائيل" لم تنهَر حتى الآن، لكنها في طريق الزوال، ولم يبقَ سوى أن يأتي لقيادة "إسرائيل" رجل مثل فريدريك دو كليرك في جنوب أفريقيا، ليرجع الحق إلى أهله قبل أن تنهار كما انهار الاحتلال الأميركي لفيتنام، والاحتلال الفرنسي للجزائر، والاحتلال الإسباني للمغرب، والاحتلال الياباني للصين. هذا ما تؤكده نخبة غير قليلة تكونت داخل الكيان الغاصب، وعلى رأسها المؤرخون الجدد، تدعو إلى "أن تنزع إسرائيل عنها سياقها الأسطوري أو الخرافي".
إنَّ تهديدات السيد نصر الله في خطاباته لـ"إسرائيل"، وخصوصاً في موضوعي استيراد بواخر النفط وحقول الغاز، لكلّ من أميركا و"إسرائيل" في حال الاعتداء على حزب الله هي تجسيد واضح لمغادرة النفسية العربية الإسلامية من بوابة لبنان لثقافة الهزيمة والاستسلام، وتأكيد جديد منه لنظرية "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة ما فعله الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس المصرية العام 1956، حين كانت استعادة عزة النفس المصرية هي أهم هذه الموجبات تأميم القناة، كما أوضح في خطاب إعلان التأميم الشهير الذي ألقاه في الإسكندرية في تموز/يوليو 1956.
وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ النخبة الإسرائيلية ما زالت تتوهم وتكابد عملياً باتباع "نظرية" وتفكير الزعيم الروحي لليمين الإسرائيلي حتى اليوم، ولا سّيما تجاه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. كلّ ما حصل أنّنا استبدلنا "الجدار الحديدي" بـ"جدار الفصل الإسمنتي".
وهنا، نلفت إلى أن العقل الصهيوني بطبعه يحمل جينات عقلية نيرون "عليَّ وعلى أعدائي"، أيّ إحراق الهيكل بما فيه، وهو أمر نابع من أسطورة قلعة ماسادا "بأننا ننتحر ولا نستسلم". لذلك، يجب الحذر من أن تفقد "إسرائيل" واقعيتها وتحوّل معركتها إلى حروب مجازر على شاكلة مجزرة قانا عام 1996.
إنَّ انتصار عام 2000 أسَّس لتحطيم الحلم الصهيوني واستحالة تطبيقه من "المحيط إلى الخليج"، كما أسست معركة حطين لنهاية الغزو الأوروبي الصليبي، وقضت معركة عين جالوت على الغزو المغولي.