معركة التحرّر برسم الطوفان
لطالما كانت الورقة الاقتصادية سيف أميركا الذي لوّحت به مبكراً في وجه صنعاء منذ تهديدات مفاوضات الكويت في السنتين الثانية والثالثة من العدوان، ومؤخّراً كانت واشنطن قد فقدت خطابها الدبلوماسي التظليلي في معمعة المعركة البحرية.
لن يخضع الردّ اليمني للحسابات المعقّدة ولن نتعامل بمرونة مستقبلاً مع الجوار الذي يصرّ على تقديم نفسه كجندي مجنّد للإملاءات الغربية، وإذا كانت صنعاء قد اتكأت على جروحها وانتهجت الصبر الاستراتيجي خلال سنوات العدوان التسع، في تقصيدها الردّ على تحالف العدوان وفق قراءات راعت مخاطر وتأثيرات وحسابات بعيدة المدى لهذه الحرب، وبغية إبقاء المساحة لالتئام الشرخ الداخلي الذي أحدثته سياسات السعودية، وعلى أمل إحداث تقارب مع الجوار المعتدي، وهو تقارب ترى صنعاء أنه مطلوب وتفرضه التحديات الاستراتيجية المشتركة ومنظومة القيم الدينية التي يتسلّح بها الشعب وقيادته.
إلّا أنّ الحال سيختلف اليوم مع تبعثر هذه المحاذير ونجاح صنعاء في جرجرة خصومها في الداخل والإقليم إلى مزالق لا أخلاقية سحيقة، كشفت فيها هوية مشاريعهم على الملأ، لقد توافرت اليوم حزمة من المعطيات السالبة التي رصدتها صنعاء في سلوك الجارة في تعاملها مع هذا الحرص اليمني، على المستوى الداخلي اليمني أو في سياق الموقف المخزي والمهين تجاه ما يحدث في فلسطين.
إذ إنه وقبل ما استجدّ في الشهور الأخيرة، ظلّت صنعاء ترصد استمرار التنصّل السعودي عن الالتزامات والاستحقاقات الشعبية الإنسانية والاقتصادية، وفي مقدّمتها ملف الأسرى والطرق ورواتب موظفي الدولة من إيرادات اليمن السيادية، ناهيك عن استمرار الخروقات السعودية على الحدود وحالة التفريخ لأدواتها المحليّة، وصناعة النزاعات التي تزيد المشكلة تعقيداً.
وإنه بشكل عام لا بوادر نحو تقدّم في عملية السلام أو حتى بوادر لحسن النوايا، بل على العكس من ذلك ظهرت ملامح تصعيد النظام السعودي مؤخّراً بإعلان موقفه من عمليات البحر الأحمر والبحر العربي، ثمّ بالإيعاز لحلفائه المحليّين اتخاذ خطوات خطيرة وكارثية تجاه البنوك والعملة الوطنية بهدف تعميق المعاناة الإنسانية والاقتصادية التي أحدثها العدوان السعودي الإماراتي على البلاد.
إذا ما تعاملنا مع هذا التصعيد بكونه أميركياً في الأساس وجاء على ذمّة الموقف اليمني المساند للشعب الفلسطيني، وهذه هي ملامحه الواضحة، فإنّ الغضب الشعبي والعسكري والرسمي سيكون أكبر وأكثر حدّة في اللهجة وردود الفعل، لكون هذا السلوك تجاوز المنظور المحلي للصراع في دوافعه وأهدافه، وهو ما يزيح الستار الأخير عن الذرائع والمبرّرات التظليلية التي كانت تصنع التشويش داخلياً بحقيقة العدوان وتموضعات أطرافه، والتي كانت صنعاء تحاول جاهدة أن يحيط بها الجميع، اليوم تبدو الصورة أكثر وضوحاً، والحجج الوطنية أكثر اندفاعاً ومعنوية.
هكذا ظهر مضمون الخطاب للسيد القائد الخميس الفائت، وهو يعرّي الموقف العربي الجمعي تجاه فلسطين، انتهاء بالإجراءات العقابية التي تعتزم السعودية الإقدام عليها في اليمن في سياق الخذلان للقضية والتواطؤ مع سدنتها، وكعادته يبدأ بالنصح ثم يرسل عبارات التحذير التي خبر الإقليم والعالم مصاديقها.
تجاوز السيد القائد أدوات الداخل وهو يتحدّث عن قرار الرياض بشلّ حركة البنوك في المناطق الحرّة ومنع تداول العملة الوطنية في المناطق المحتلة، قرارات لا تصبّ بطبيعة الحال في خدمتها أو خدمة المواطن الواقع تحت سيطرتها، خاطب السيد النظام السعودي مباشرة برسائل تتجاوزه إلى من يقف وراء هذه الإجراءات العقابية، الولايات المتحدة الغارقة في دوامة فشل عسكري كبير في البحار المتاخمة لليمن.
للتذكير، لطالما كانت الورقة الاقتصادية سيف أميركا الذي لوّحت به مبكراً في وجه صنعاء منذ تهديدات مفاوضات الكويت في السنتين الثانية والثالثة من العدوان، ومؤخّراً كانت واشنطن قد فقدت خطابها الدبلوماسي التظليلي في معمعة المعركة البحرية وتحدّثت صراحة عن أنّ ما تقوم به صنعاء سينعكس سلباً على عملية السلام المحلية والإقليمية، كاشفة عن أنّ أطراف الداخل والإقليم في متناولها تحرّكها بحسب أهوائها، ومطروحة على طاولة صنعاء للمساومة بالخيارات اليمنية المساندة لفلسطين.
لسان حال اليمنيين اليوم "ردّنا هذه المرّة سيكون قوياً ومدّعماً بالحجج الدامغة التي أظهرت النظام السعودي جبهة متقدّمة للكيان إلى جانب كونه عدواً مستمراً للسلام المحليّ والإقليمي، وهي حجج حاضرة ومتقادمة، غير أن المسار اليمني الجديد حاول أن يتعامل معها بالنصح على أمل إحداث مراجعة جذرية للمواقف، لكن ما استجدّ كشف بشكل أوضح وأكبر إمعان هذه الجارة في الانصياع التام لأميركا، وفي تأكيد مسارها القديم الجديد تجاه اليمن تحديداً، تحدث هذه المكاشفة اليوم أمام الوعي العام الداخلي والعربي عموماً.
ووفقاً لتصعيد الرياض بهذه الإجراءات الاقتصادية الخطيرة، وتحذيرات القائد لها، فإنّ المؤشّرات توحي بأنّ صنعاء ستخوض جولة جديدة من الصراع مع السعودية، بمتغيّرات كثيرة عمّا حدث من جولات سابقة، وباصطفاف داخلي أكبر، وحتى تضامن شعبي عربي وعالمي أوسع.
أما على صعيد القدرات العسكرية، فثمّة فوائد كثيرة معنوية وتقنية ومبدئية حصدها الجيش اليمني خلال سنوات خفض التصعيد، وحصل عليها المقاتل اليمني على هامش المساندة للأشقّاء في غزة، يراهن الداخل اليمني أنه لن تكون أيّ جولة تصعيد لتحالف العدوان وأدواته إلا مراكمة للإنجازات واستئنافاً لمعركة التحرّر الوطني، وانتقالاً من أسوأ مراحل الصراع والمتمثّلة في حالة اللاسلم واللاحرب التي شابت السنوات الأخيرة، مع بقاء البلاد مقسّمة جغرافياً بلا أفق، والمقدّرات منهوبة بلا وعاء، والمعاناة الشعبية متفاقمة بشكل ممنهج ومخطّط له.
والخلاصة كما يقول السيد حسين بدر الدين الحوثي رحمه الله، إذا تحرّكت في المسار الصحيح والصائب، ستجد حتى أعداءك يخدمونك ويقدّمون لك الوسائل للنصر بغير قصد، وما هذا التصعيد السعودي الخاطئ في توقيته ومبرّراته، الكارثيّ في ارتداداته، إلا دافعاً للإرادة الوطنية لاستئناف وحسم المعركة المتعثّرة والمؤجّلة.