قاتلوا روسيا بالوكالة.. هل ينوون قتالها بالأصالة؟
لقد كشفت المواجهة بين روسيا والغرب بعض المشاكل تقنية والفنية، وعقم بعض التكتيكات العسكرية، وهشاشة وضعفَ ما كان يُعتقد أنها مكامن القوة على طرفي المواجهة
بات من المعروف أن الحروب الطويلة الأمد تحتاج إلى النفس الطويل، وإلى الإمداد الدائم بالمال والمقاتلين والسلاح، الأمر الذي يُكسب تلك الموارد، وبشكلٍ تدريجيّ، أهمية خاصة، ويجعلها تحتلّ مكانة متقدمة في جدول أولويات الدول، وخصوصاً تلك القادرة على تعويض الخسائر في الجنود والمعدات لترفع احتمال انتصارها العسكري.
وفي خضمّ المواجهة الحالية في أوكرانيا، ومع استمرار تسليح القوات الأوكرانية بأسلحة الناتو ودول الاتحاد الأوروبي، تجد الولايات المتحدة وحلفاؤها الوقت للحديث عن إمكانية التوصل إلى تسوية سلام مع روسيا، الأمر الَّذي لا تمانعه موسكو من بوابة التوافق على الحلول المقنعة لها، والتي تضمن أمنها القومي وأمن مواطنيها في المناطق التي ضمتها في الآونة الأخيرة وأصبحت تابعة لها رسمياً، إضافة إلى حلولٍ تضمن توقف الناتو عن زحفه وتوسعه شرقاً.
لكن الغرب يحاول التفاوض على السلام بمعنى الاستسلام الروسي أو استمرار المواجهة بخطها التصاعدي الخطر. وحتى الآن، لم يتم التوصل إلى حل وسط يرضي الطرفين، ولا يزال الغرب يأمل زعزعة الاستقرار الداخلي لروسيا، وإضعافها مالياً واقتصاديا وعسكرياً، واستنزاف كل مقدراتها.
يأتي ذلك في وقت لا تزال وسائل الإعلام الغربية مهتمةً بالترويج لقدرة الغرب على تزويد أوكرانيا بالأسلحة إلى أمدٍ غير محدود، وسط التقارير الإعلامية المعاكسة التي تتحدّث عن انكشاف حقيقة مخزون الأسلحة لدى الغرب، وضعف إمكانيات المجمع الصناعي العسكري لغالبية دول التحالف الغربي لتعويض الخسائر في العتاد والجنود والمرتزقة الأوكران.
وتتم الاستعاضة عن ذلك بتقديم الأسلحة الأكثر نوعيةً وتطوراً، مثل دبابات "ليوبارد 2" الألمانية، الأمر الذي يفتح الباب رويداً رويداً لانضمام الجيوش الغربية بشكلٍ علني إلى المعارك والمواجهات، بما يعكس حقيقة انتقال هذه الدول من القتال بالوكالة إلى القتال بالأصالة، بعدما فضحت اللقاءات والتصاريح الأوروبية الرسمية كماً هائلاً من الاحتقان والغضب والإصرار على هزيمة روسيا، الأمر الذي سيؤدي إلى تدمير فرص السلام في المدى المنظور.
ويبقى السؤال: إلى أي مدى تبدو الولايات المتحدة مستعدة لإرسال قوات الناتو علناً إلى أوكرانيا لمواجهة روسيا؟ هناك من رأى في اجتماع وزراء الدفاع في قاعدة "رامشتاين" الأميركية في 20 كانون الثاني/يناير في ألمانيا بعض المؤشرات على احتمال صدور قرارٍ غربي لاتخاذ خطوة "جريئة"، في حال شهدت القوات المسلحة الأوكرانية خسائر فادحة في جنودها.
أتى ذلك في وقت واجه اجتماع قاعدة "رامشتاين" رفضاً شعبياً، ونُظمت تظاهرة حاشدة دعت إليها مجموعة "أوقفوا رامشتاين"، ردد من خلالها المتظاهرون هتافات "دبلوماسيون لا جنود" و"لا للدبابات في أوكرانيا"، ودعوا إلى محادثات دبلوماسية وسلام مع روسيا بدلاً من إرسال الدبابات والأسلحة الثقيلة إلى أوكرانيا، ناهيك بدعوة نائب الأمين العام لحلف الناتو ميرسيا جيوانا "إلى الاستعداد لنزاع طويل الأمد في أوكرانيا"، وقوله إن "عام 2023 سيكون صعباً للغاية".
لقد كشفت المواجهة بين روسيا والغرب بعض المشاكل تقنية والفنية، وعقم بعض التكتيكات العسكرية، وهشاشة وضعفَ ما كان يُعتقد أنها مكامن القوة على طرفي المواجهة، لكن ما تأكد من الحقائق هو تلك المشكلات الجوهرية في حلف الناتو، والتي تعتبر غير قابلة للحلّ وفق الظروف والتركيبة الحالية للحلف.
إنَّ إعلان الولايات المتحدة أهدافها بإلحاق الهزيمة العسكريّة بروسيا، وتفتيت الدولة الروسية إلى عدد من الدول الصغيرة، والسيطرة عليها سياسياً واقتصادياً، تطلب منها توفير المنصة أو ساحة المعركة، وقد وجدتها فعلاً في أوكرانيا.
كما تطلب منها توفير المال الذي قدمته بالمليارات، إضافةً إلى تأمين العدد الكافي من الجنود والمقاتلين على الجبهات الأوكرانية وضمان التسليح المناسب وتعويض الخسائر، من أجل استمرار المواجهة إلى حين تحقيق الأهداف الأميركية المعلنة.
من حيث المبدأ، نجحت الولايات المتحدة بتأمين الغطاء السياسي لأوكرانيا والدعم المالي والاقتصادي، لكنها لم تستطع تأمين السلاح الحاسم كماً ونوعاً بما يتناسب وحجم أهداف المخطط الغربي، فالدولة الروسية قوية وقادرة، وتحتاج هزيمتها إلى أعجوبة عسكرية في زمن اللاعجائب.
كذلك، يمكن تقييم حزم العقوبات المالية والاقتصادية، وإرسال المرتزقة إلى أوكرانيا، وتفجير جسر القرم وأنابيب "نورد ستريم 1 و2"، بأنها مؤثرة، لكنها غير حاسمة، ولا تشكل مبررات أو دوافع لتوريط الدولة الروسية بحربٍ نووية.
هذا الأمر قد يحصر المواجهة بما دون الحرب النووية حالياً، ويحدد شكل المواجهة وسقف الأسلحة، بما يعطي الدبابات والمدفعية البعيدة المدى وأنظمة الدفاع الجوي وطائرات الهليكوبتر والطائرات الحربية أهميةً كبرى، ويثير شغف المهرج الأوكراني وأطماعه ومطالباته اليومية بتأمين تلك الأسلحة لقواته ومرتزقته، ويحفّز توقعاته وثقته بالانتصار.
ومع الوعود الأميركية والبريطانية والفرنسية والألمانية والكندية والبولندية، باتت كييف تأمل الحصول على نحو 150 دبابة، إضافةً إلى ما وصلها وتبقّى لديها بعد عام من المعارك، مما استطاعت القوات الروسية تدميره وسحقه.
كما تأمل أن تكون هذه الدبابات، وخصوصاً "ليوبارد 2" الألمانية، عماد الهجوم البري الذي تنوي أوكرانيا شنه بدعمٍ من واشنطن وحلفائها الأوروبيين في الصيف القادم، والذي يُرَوج له إعلامياً.
إنَّ جدّية الحديث عن حرب الصيف القادمة تتطلَّب استهلاك الوقت لحين انقضاء أشهر الشتاء، وإنتاج الدبابات في المصانع الأميركية والأوروبية ونقلها، وتدريب مقاتلي جيش كييف.
وتحتاج واشنطن إلى فرض سيطرتها على إيقاع المعارك، وتحويلها إلى حرب استنزاف تكون أقرب إلى حرب ابتزاز عسكري – نووي، وابتزازٍ سياسي تسووي، تحاول من خلاله استعادة ما خسرته في ساحة المعركة، ويكون مبنياً على الاستسلام الروسي الَّذي لن يحدث في اعتقادي واعتقاد الكثيرين.