"عودة التاريخ" في تحدٍ للأحادية الأميركية
ثمة حلقات من الصعود والهبوط في تاريخ الحضارات؛ فالقرن الـ 18، كان عصر الإمبراطورية الفرنسية والقرن الـ 19 كان القرن البريطاني، والقرن الـ 20 كان القرن الأميركي.
يتفق الخبراء والمراقبون أن عسكرة العلاقات الدولية قد بدأت، ويؤكد ذلك اندلاع عدد من بؤر الصراع، وعلى رأسها الحرب الروسية – الأوكرانية، والتوتر في شبه الجزيرة الكورية ومنطقة جنوب شرق آسيا بين أميركا وحلفائها، اليابان وكوريا الجنوبية، والصين وكوريا الشمالية، وتزايد المناورات العسكرية، لا سيما الروسية –الصينية، والتي تستهدف ردع التهديدات الأميركية.
يضاف إلى ذلك تزايد حجم الإنفاق العسكري، خاصة من جانب الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة (858 مليار دولار) تليها الصين 230 مليار دولار، ثم روسيا 70 مليار دولار، وإعلان اليابان سياستها الدفاعية الجديدة بإنفاق 80 مليار دولار على مدار خمس سنوات، وتطوير هذه الدول لقدراتها العسكرية من الأسلحة الذكية والأسلحة الاستراتيجية.
وفي موازاة ذلك، تصاعد استخدام سلاح العقوبات في العلاقات الدولية من جانب أميركا والغرب تجاه الخصوم، مثل روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وغيرها، في وقت يشير عدد من الباحثين إلى فقدان سلاح العقوبات الأميركية جدواه وفعاليته؛ بسبب كثرة استخدامه ضد الخصوم والمخالفين من جهة، وبسبب طرق الالتفاف التي أتقنها الخصوم في مواجهة هذه العقوبات، من جهة أخرى.
يمكن للولايات المتحدة فرض حزمة عقوبات كأهداف على الصين وروسيا وإيران، والعمل على احتوائها ومحاصرتها اقتصادياً، غير أن هذه الأهداف غير قابلة للتحقق على الأرض، وذلك بسبب القدرات والإرادات المعارضة لها، سواء في الصين أو روسيا أو إيران، أو غيرها من الدول التي ترفض الهيمنة الأحادية الأميركية.
إن على الولايات المتحدة أن تفهم أن سقوط الحضارات ونهوضها حلقة في دوامة تاريخية، فكما سقطت الإمبراطوريات الرومانية والبريطانية والفرنسية والمغولية، من الطبيعي أن تسقط الإمبراطورية الأميركية عاجلاً أو آجلاً، وإن لم يكن فإنها اليوم في لحظة تراجع.
ثمة حلقات من الصعود والهبوط في تاريخ الحضارات؛ فالقرن الـ 18، كان عصر الإمبراطورية الفرنسية والقرن الـ 19 كان القرن البريطاني، والقرن الـ 20 كان القرن الأميركي.
يجب أن تدرك الولايات المتحدة، سواء وافقت على ذلك أم لا أن هناك طموحاً غير عادي من قبل الصين وروسيا لاستعادة مكانتيهما التاريخيتين كقوتين عظميين تفرض كل منها رؤيتها التي تدعو إلى عالم متعدد الأقطاب في مواجهة القطب الأميركي الأوحد. فالصين وروسيا وإيران هي من أقدم الحضارات في هذا العالم، وهي تعمل اليوم على اكتشاف منابع قواها الحضارية.
فعلى الرغم من وجود أفضل الجامعات في الولايات المتحدة، وأحسن مراكز الفكر الاستراتيجية تمويلاً، وأقوى وسائل الإعلام تأثيراً في العالم، فإن صناع القرار في واشنطن محرومون من الفكر الاستراتيجي البعيد المدى. ويحتاجون إلى الإرشاد وهم في حالة ضياع ويقعون في أخطاء استراتيجية كبيرة، وبالأخص في ما يتعلق بالصين وروسيا وإيران والصراع العربي-الصهيوني.
التنافس مع التنين الصيني
يذكر سفير سنغافورة السابق في الأمم المتحدة، المفكر كيشور محبوبي، أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسينجر، قد أكد له شخصياً مرتين أن أميركا لا تملك استراتيجية شاملة وبعيدة المدى بشأن صعود الصين. ويعلق محبوبي على ذلك بقوله: "ثمة أدلة قوية تدعم رأيه. الاستراتيجية ليست هدفاً بحدّ ذاتها، إنها وسيلة. وقبل أن تصوغ الولايات المتحدة استراتيجية بشأن الصين، عليها أن تحدد الأهداف التي تأمل في تحقيقها. ولم يسبق قط أن تم تحديد هذه الأهداف، برغم كثرة الأوراق الاستراتيجية الصادرة عن وكالات مهمة في واشنطن.
فمثلاً، قال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في 26 أيار/ مايو 2022: "سنتنافس مع الصين للدفاع عن مصالحنا، وسنحدد رؤيتنا للمستقبل". لكن بلينكن لم يحدد أهداف أميركا في هذا "التنافس" مع الصين.
يقول محبوبي: "لو استطاع المفكرون الاستراتيجيون وواضعو السياسات في واشنطن أن يقفوا وقفة تبصُّر، وأن ينظروا بعمق في سياساتهم وإجراءاتهم حيال الصين، لرأوا أن شيئاً لن يعيق الصين حقاً، ولا حتى حرب التكنولوجيا التي شنّتها الولايات المتحدة مؤخراً. الغريب أن دول العالم بمعظمها تستطيع رؤية هذا بوضوح، لذا فهي تمتّن علاقاتها بالصين، وتتفاعل إيجابياً مع مبادرات الصين، كمبادرة الحزام والطريق".
تؤكد صحيفة "الشعب" الصينية أن الصين وقّعت 205 وثيقة تعاون للبناء المشترك لـ "الحزام والطريق" مع 140 دولة و31 منظمة دولية. من عام 2013 إلى عام 2020، تراكمت تجارة السلع بين الصين والدول الواقعة على طول "الحزام والطريق" إلى 9.2 تريليون دولار أميركي، كما استثمرت الشركات الصينية ما قيمته 136 مليار دولار أميركي في البلدان الواقعة على طول "الحزام والطريق"، كما تم استيعاب ما يقرب من 60 مليار دولار أميركي من الاستثمارات من الدول الواقعة على طول "الحزام والطريق."
ومن غير المنطقي أن تقلّص أي دولة تجارتها مع الصين لمجرد إرضاء واشنطن. وحتى لو أخذنا دولة قريبة جيوسياسياً من الولايات المتحدة كالبرازيل فإنها ستلقى مصاعب جمة لو قلصت تجارتها مع الصين، إذ إن تجارتها مع الصين تبلغ ثلاثة أضعاف تجارتها مع الولايات المتحدة.
النهوض الاقتصادي الصيني لا سبيل إلى إيقافه. تبيّن دراسة لمركز أبحاث الاقتصاد والأعمال في لندن، أن الصين ستتجاوز الولايات المتحدة لتصبح أكبر اقتصاد في العالم عام 2028، وتؤكد أن نجاح الصين في التعامل مع "جائحة كوفيد-19 وتداعياتها الاقتصادية يجعل هذا التنافس يميل بالتأكيد لمصلحة الصين".
ولا سبيل لواشنطن أن تسقط الحزب الشيوعي الصيني أسوة بما حدث للحزب الشيوعي السوفياتي. وقد ذكرت دراسة أكاديمية صادرة عن مركز "آش" في كلية كيندي في "هارفارد" أن التأييد للحكومة المركزية في أوساط الشعب الصيني ارتفع من 86.1% في عام 2003 إلى 93.1% في عام 2016. فالشعب الصيني شهد في السنوات الـ 30 الأخيرة أفضل تطور اجتماعي واقتصادي في تاريخه الممتد إلى 3آلاف سنة. ليس معقولاً أن يُسقط الصينيون الحزب الذي وفّر لهم هذا الرخاء.
تحدي الدب الروسي
إن تعنّت واشنطن في عدم الاستماع إلى قلق موسكو، والوقوف في وجهها كقوة عظمى عائدة من جديد إلى الساحة الدولية، كان سبباً رئيسياً في اتجاه أميركا نحو العسكرة وبناء التحالفات والشراكات الاستراتيجية مع الحلفاء لتحجيم صعود روسيا، حيث سعت لإشعال بؤرة أوكرانيا واستنزاف روسيا فيها، وبناء شراكات مع الأوروبيين لفرض العقوبات على روسيا، ولا سيما في قطاعَي النفط والغاز، والدعم العسكري اللامحدود لأوكرانيا.
في ظل هذه الأجواء، اضطرت روسيا في 24 شباط/ فبراير 2022 إلى بدء عملية عسكرية خاصة. وإثر ذلك، بدأ الغرب يضخ السلاح بأشكاله إلى أوكرانيا بوتيرة غير مسبوقة، وفي الوقت ذاته، فرضت عقوبات جديدة على موسكو، (الحزمة التاسعة من عقوبات الاتحاد الأوروبي تم إقرارها في 15 كانون الأول / ديسمبر 2022). وفي المجمل، فإن 11 ألف بند عقابي قد فرضه الغربُ على روسيا في الفترة المنصرمة، وهذا قدر غير مسبوق من القيود التي فرضت على دولة واحدة.
وفيما تُشن هذه الحرب الاقتصادية على روسيا، يتغنى مسؤولو "الناتو" بأن هذه العقوبات ستؤدي إلى انهيار الاقتصاد الروسي، ويزعمون أن الانهيار سيبلغ 20% على الأقل، بحسب تقرير لـموقع "بلومبرغ".
لكن الأهداف الأميركية غير قابلة للتحقق على الأرض. إذ تعتقد روسيا أنّ هجوم 11 أيلول/سبتمبر 2001 كان إشارة إلى أنَّ الولايات المتحدة يمكن أن تُهزم، فكانت فرصة سانحة لروسيا بقيادة بوتين حتى تستعيد نفوذها في العالم. ولهذا، دخلت روسيا في حرب مع جورجيا في العام 2008، واستعادت جزيرة القرم، وتدخلت في شرق أوكرانيا في العام 2014 من خلال إعلان جمهوريتي "لوغانسك" و"دونباس"، وتدخّلت في الحرب السورية في العام 2015. وقد عُدّ هذا التدخل العودة الثانية لروسيا إلى الشرق الأوسط بعد التدخّل الأول في العام 1956 إثر هزيمة العدوان الثلاثي.
لقد أدت الخطوات الغربية المعادية لروسيا إلى مزيد من تكاتف المجتمع الروسي، (الدعم الشعبي لبوتين ظل في مستوى 80%). بعض المعارضين الروس غادروا البلاد، وهذه حقيقة، وهم أقل من 200 ألف، في حين يزيد عدد سكان روسيا على 150 مليوناً، مع الأخذ في الحسبان ضم المناطق الأوكرانية الأربع وهي: جمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوغانسك الشعبية، ومنطقتا زاباروجيا وخيرسون، وأغلبية سكان هذه المناطق صوّتت لمصلحة الانضمام.
واستطاع الاقتصاد الروسي أن يتأقلم مع العقوبات المفروضة. وتظهر النتائج في نهاية عام 2022، أنَّ تراجع الاقتصاد سيبلغ 2.9% فقط، بعد الإجراءات المهمة التي اتخذها. ويقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه لن يتجاوز 0.9% في 2023، ثم بعدئذ يبدأ النمو. وهذا يبرز قدرة الاقتصاد الروسي على التحمل في وجه التحديات المتزايدة.
ومن الإجراءات المهمة التي أسهمت في التخفيف من أثر العقوبات تشكيل مجلس تنسيقي بمرسوم رئاسي. يتبع المجلس حكومة الاتحاد الروسي ويرأسه رئيس الوزراء، وغرضه الوفاء باحتياجات العملية العسكرية الخاصة (وهذا يتضمن التزويد بالسلاح وصيانته، وتوفير العتاد اللازم، والمخصصات المالية، والخدمات الطبية، والقيام بالإنشاءات والتجهيزات، وتوفير الخدمات اللوجستية).
يقول أحد الباحثين الروس "مع التعافي في اقتصادنا، سنمضي قدماً في تحقيق أهداف العملية العسكرية الخاصة، ولهذا الغرض، أجرينا تعبئة محدودة بتجنيد 300 ألف في الجيش، وبدأ 77 ألفاً منهم الخدمة في الوحدات القتالية، فيما تواصل البقية التدريب لمدة في المعسكرات، ومراكز التأهيل. نقوم بخطوات حثيثة لزيادة التعاون مع الدول النامية التي ترفض، رغم ضغوط الغرب، الانضمام إلى تطبيق العقوبات".
وبالنظر إلى ديناميات الدول، تبدو روسيا وكأنها تستفيد من الفراغ في القيادة الدولية أكثر من أي منافس آخر. وكذلك الصين التي عدّتها مجلة "فورين اَفيرز" الأميركية عام 2020، بأنها "تناور حالياً لتحظى بقيادة العالم. في الوقت الذي تفشل فيه الولايات المتحدة مع تحوّل وباء كورونا المستجد إلى حدث عالمي. ففي عام 1956، كشف تدخل فاشل في قناة السويس اضمحلال بريطانيا العظمى، وسجل نهاية نفوذ المملكة المتحدة كقوة عالمية".
ألا يكفي فشل الولايات المتحدة الذريع في العراق وأفغانستان لنقول إننا في "لحظة سويس أخرى"! على حدّ تعبير مجلة "فورين اَفيرز".
اعتقد بأن توصيف ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية للواقع الدولي، بأن إحياء أجواء الحرب الباردة في عام 2022 هو "عودة التاريخ"، أكثر ذكاء وأبعد نظراً من رؤية المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما الذي رأى في سقوط الاتحاد السوفياتي علامة على "نهاية التاريخ"، معتبراً أن الصراع العالمي قد تم حسمه بانتصار الرأسمالية كفكرة ومشروع حضاري شامل، بينما تهاوت "إمبراطورية الشر" الشيوعية وثبت فشل مشروعها إلى الأبد. وهكذا يكون التاريخ قد وصل إلى محطته النهائية، بحسب زعمه الذي أثبتت العقود اللاحقة تفاهته.