المقاومة فكرة.. والفكرة تُميّع

الليبراليّة تسعى دائماً لأن تنقل قضايا التحرير والمقاومة من الساحات بين أيدي الناس العاديّين إلى الصالونات الثقافيّة بين أوراق الأكاديميّين والخبراء ونقاشاتهم، أو إلى المساحات الافتراضيّة للمؤثرين وصنّاع المحتوى.

  • "المقاومة فكرة والفكرة لا تموت".

كتب غسان كنفاني عبارةً خُلّدت، ويستعين بها كثيرون  اليوم للإشارة إلى استمرار المسيرة، رغم خسارة قادتها وهي أنّ "المقاومة فكرة، والفكرة لا تموت". وبالرغم من أنّ مغزى هذا النصّ صحيح، لكنّ العبارة نفسها يُمكن استثمارها وتفسيرها بطريقة خطرة.

صحيح أنّ "المقاومة فكرة والفكرة لا تموت" لكنّ الليبراليّة تحترف تمييع الأفكار، وتحويل القضايا إلى نضالات هلاميّة تسمح للشخص أن يُفرّغ غضبه وطاقته في مكان لا علاقة له بالتغيير الفعلي.

بل أكثر من ذلك، هي تُشجّع على هذا اللون من النضال، فهو نضالٌ يفرّغ غضب الناس وانفعالاتهم، من دون إزعاج، كالمظاهرات الاحتجاجيّة في عطلة نهاية الأسبوع، أو وقفات إضاءة الشموع في المساء بعد انتهاء دوام العمل، أو حتّى انخراط بعض هذه النضالات في العمليّة الرأسماليّة الإنتاجيّة، فيُناضل الشخص مثلًا كي يسمح له الموقع الشرائي العالمي المعيّن أن يبيع من خلاله سترةً مع صورة بطيخة عليها.

وكثيرون من هؤلاء الناشطين يقومون بهذه الأنشطة عن حُسن نيّة، على قاعدة أنّ "ما لا يُدرَك كُلّه، يُدرك جُلُّه"، وأنّ بعض التنازلات ضروريّة في تسويق قضايانا، خصوصاً للجمهور الغربي والأبيض الذي سيصعب عليه أن يسمع أو يقبل القضيّة كما هي، فلنتنازل إذًا قليلًا، ولنقبل منهم أنصاف المواقف، فنصف موقفٍ خيرٌ من لا موقف أليس كذلك؟

ليس بالضرورة دائماً…فمراكمة هذه التنازلات مع الوقت، في سبيل أن يُفسَح لك المجال في الساحات "العالميّة" للنضال والتعبير عن (أنصاف) قضاياك، قد تؤدّي أحياناً، إذا لم يذكّر الشخص نفسه بأنّ هذا نصف موقف لا كُلّ الموقف، إلى تمييع القضايا في أذهاننا وأذهان الأجيال القادمة، وتحويل النضال من دعم كفاح مسلّح إلى دعم مؤثّر قام بإفحام إعلامي غربي في برنامجه المسائي.

كما أنّ الليبراليّة تسعى دائماً لأن تنقل قضايا التحرير والمقاومة من الساحات بين أيدي الناس العاديّين إلى الصالونات الثقافيّة بين أوراق  الأكاديميّين والخبراء ونقاشاتهم، أو إلى المساحات الافتراضيّة للمؤثرين وصنّاع المحتوى.

وهنالك فائدتان لعمليّة النقل هذه. أوّلاً، المساحات الآنفة الذكر هذه هي مساحات مُروَّضة، أي يسهل ضبطها وقمع التمرّد فيها (إن وُجد) عبر الحرمان من الامتيازات وقطع التمويل، لذلك، قلّة من هؤلاء يذهبون أبعد من الحدود المرسومة لهم. وثانياً، غالباً ما تنشغل المساحات هذه في تفاصيل تقنيّة أو نقاشات من دون فائدة عمليّة، كالانشغال لأكثر من عام في سؤال إذا ما كان مصطلح إبادة ينطبق على غزّة أو لا، أو في نشاطات فيها ما يكفي من التنازلات لأن تتبدّد ملامح القضيّة الأساسيّة. هكذا، تتحوّل مع الوقت معركة التحرير إلى ندوات تثقيفيّة ونماذج الطاولة المستديرة، أو إلى رمز بطيخة أو مثلث أحمر يضعه الناشط على صفحته، أو كوفيّة يرتديها حول رقبته في مظاهرات نهاية الأسبوع أو في رحلة ترفيهيّة، وغيرها من التمظهرات السلميّة للنضال ضمن المنظومة.

وليست المشكلة في وجود هذه المساحات أو هذه الأنشطة، بل ربّما يكون وجود بعضها ضروريّاً، خصوصاً إذا كان يلعب دوراً في تشكيل وعيٍ سياسيّ للجيل الجديد. كما أنّ هذه الأنشطة عادةً ما تتيح لكلٍّ، حسب قدرته ومعارفه وتعقيدات ظروفه، أن يُحاول لعب دورٍ مفيدٍ في القضيّة المجتمعيّة المشتركة. لكنّ المشكلة تحديداً هي أنّه مع الوقت، ومع الإفراط في تقدير أهمّيّة هذا النوع من الأنشطة، اختزن كثيرون من هؤلاء الناشطين -عن لاوعي في بعض الحالات- أنّهم سواسية في نضالهم والمقاتلين، كأنّ حرمان الأكاديمي من امتيازات جامعيّة أو إغلاق صفحة صانع المحتوى تُعادل تضحية أو ثمن من يبذل دمه ليحرّر الأرض وأهلها. بل وأسوأ من ذلك، هنالك فئةٌ من هؤلاء الناشطين تعتبر اليوم أنّها متفوّقة على المقاتلين، فكريّاً على الأقلّ، وأنّها أكثر "وعياً" للقضيّة. وحتى هذه الفكرة نفسها مرتبطة بتمييع مفهوم الوعي، حتّى أصبح "الوعي" أرشيفاً تحتفظ به في عقلك، لا سلوكاً تنتهجه في يوميّاتك.

المقاومة فكرة لكنّها ليست فكرة مجرّدة، هي حركة تحرّريّة مبنيّة على العنف أوّلاً وأخيراً. فمن يحرمك من حرّيتك ويسيطر على خيراتك بالعنف، لا يُواجَه سوى بالعنف لانتزاع حرّيتك منه.

وأيّ تعريفٍ أو حديثٍ عن المقاومة لا يشمل جوهرها هذا، ليس ناقصاً فقط، بل هو مشوّهٌ أيضاً. لذلك، فكُلّ الوسائل الأخرى للمقاومة والنضال، من ندوات ثقافيّة أو مقاطعة اقتصاديّة أو تحرّكات جامعيّة وغيرها، مهما كانت مفيدة، تبقَ وسائل رديفة، أي أنّ قيمتها الحقيقيّة تنتفي حكماً متى غاب السلاح، إلا أنّها ربّما قد تسمح للمناضل حَسَن النوايا بالتنفيس قليلاً عن غضبه في أوقات الفراغ، مُصدّقاً وهم التغيير من داخل المنظومة.