المتغيّرات الداخلية وأثرها في مستقبل القوى الإقليمية الفاعلة
بالنسبة للسعودية من الواضح أنّها وانطلاقاً من متغيّرات الداخل، إلى جانب واقع الدول العربية غير المتماسك، عمدت مؤخّراً إلى تغيير رؤيتها لدورها في الإقليم.
يبدو المشهد الإقليمي في مرحلة تحوّل واضحة، فالإقليم مكوّن من أربع ركائز تتفاعل لتحدّد وجهته. هناك إيران، وتركيا، والعالم العربي وعلى رأسه السعودية راهناً، وهناك الكيان الإسرائيلي. وهذه الركائز الأربع تتحرّك بتأثير الداخل والتفاعلات التي ينتجها، كما أنَها تتأثّر بالمتغيّرات التي يعيشها النظام العالمي والتي من الطبيعي أن تنتج مرحلة جديدة بغض النظر عن طبيعتها.
وبمقاربة التفاعلات الداخلية وتأثيراتها، نجد أنّ إيران تشهد ثباتاً على مستوى النظام السياسي واستقراراً في مسار نهج الثورة التي كرّسها الإمام الخميني. ويبقى الاستحقاق الرئيسي بالنسبة لها متعلّقاً بالملف النووي وتداعياته، وقد تمّ الإعلان عن الاتفاق النووي الإيراني في 14 تموز/يوليو 2015 بعد خلافات حادّة استمرت أكثر من عشر سنوات بين إيران والدول الكبرى متمثّلة بالدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا المعروفة بمجموعة 5+1. وشمل الاتفاق تقليص النشاطات النووية الإيرانية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران بشكل تدريجي.
غير أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب انسحب من الاتفاق بشكل أحادي الجانب عام 2018، وفرض عقوبات على طهران ولا تزال المفاوضات موضع تجاذب بين إيران والمجموعة منذ فوز جو بايدن بالرئاسة، ولم يتمّ التوصّل إلى أي جديد. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مسار الاتفاق عام 2015 والانسحاب الأميركي منه عام 2018 لم يغيّر في دور إيران الإقليمي. مع الإشارة إلى أنّ إيران شهدت تحرّكات داخلية واسعة النطاق منذ أواخر العام 2022 لكنها لم تؤثر في مسار البنية الداخلية والنظام السياسي.
من هنا يمكن القول إنّ إيران مستقرة داخلياً، ويتطوّر دورها خارجياً من خلال علاقتها مع الصين والاتفاقية التي وقّعتها معها، كما ومن خلال دورها في منظمة شنغهاي. إضافة إلى علاقتها مع روسيا وتزويدها لها بالمسيّرات في حربها مع أوكرانيا، كما وقد يسهم الاتفاق بينها وبين السعودية مؤخّراً برعاية بكين في تفعيل المزيد من الدور الإقليمي.
على مستوى تركيا، هناك استحقاق قد يسهم في إحداث تغيّرات داخلية ربما يكون لها تأثير واضح في دورها، يتمثّل في الانتخابات التركية المزمعة والتي إذا ما خسر فيها حزب العدالة والتنمية قد يغيّر ذلك في وجهة تركيا. فأنقره تستعد الشهر المقبل لإجراء أكثر استحقاقاتها الانتخابية أهمية منذ تأسيس الجمهورية قبل قرن، من حيث كونها تُشكّل اختباراً صعباً للرئيس رجب طيب إردوغان لتتويج عقدين من حكمه بولاية رئاسية جديدة وأخيرة، ومن حيث الاستقطاب السياسي والمجتمعي الحاد الذي يُصاحبها والظروف الاستثنائية المحيطة بها بفعل تداعيات الزلزال، فضلاً عن أنها تأتي في لحظة تحوّلات عالمية كبيرة ليست أنقرة بعيدة عنها.
فهذه الانتخابات وعلى عكس سابقاتها التي جرت خلال العقدين الماضيين والتي تمكّن فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة إردوغان من الفوز والحفاظ على السلطة باستثناء الانتخابات المحلية التي جرت عام 2019، فإن الانتخابات المقبلة مختلفة إلى حد كبير. فهي المرة الأولى التي يواجه فيها إردوغان تحالفاً يضم 6 أحزاب معارضة بينها حزبان كبيران، كما أنها ليست منافسة تقليدية بين ائتلافين-حاكم ومعارض-بقدر ما هي صراع على تحديد هوية تركيا المستقبلية.
فالمعارضة، لا تريد الوصول إلى السلطة فحسب، بل تسعى إلى تغيير النظام السياسي وإدارة اقتصادية مختلفة جذرياً عن إدارة إردوغان وتعد بتبنّي نهج مختلف كلياً عنه في السياسة الخارجية.
عربياً، وعلى الرغم من وجود 22 دولة عربية، غير أن الواقع يشير إلى أن السعودية هي الأكثر حراكاً على مستوى الإقليم. والسعودية تشهد متغيّرات داخلية جذرية للمرة الأولى منذ تأسيس المملكة وهذا الأمر ستكون له تداعيات كبيرة على دورها وعلى الإقليم. فعام 2016 أطلق الأمير محمد بن سلمان، ما سمّي بـ (رؤية 2030) التي تهدف إلى إجراء إصلاحات شاملة وصفها بـ «استعدادات مرحلة ما بعد النفط في المملكة».
اتخذ محمد بن سلمان وللمرة الأولى في تاريخ السعودية إجراءات قاسية جداً وذات أبعاد سياسية واضحة لناحية تثبيت نفوذه في الحكم، منها اعتقال بعض كبار الأمراء وإزاحتهم من مناصبهم، وأهمها كان إبعاد ولي عهد والده ابن عمه الأمير محمد بن نايف ليحلّ هو محله في منصب ولي العهد. وأجرى تعديلات في المناصب العسكرية المهمة جاءت ضمن ما عرف بـ «وثيقة تطوير وزارة الدفاع»، وتم إعفاء مسؤولين من مهامهم واستبدالهم بمسؤولين موالين له من جيل الشباب في العائلة المالكة، وأمر كذلك بحبس أمراء ووزراء بتهم فساد واستغلال للسلطة.
كما أنّه كفّ يد آل الشيخ الممسكين بالمؤسسة الدينية عن الشؤون العامة والحياة الاجتماعية، وإنّ تقليص دورهم سيكون له أثر كبير في تحديد مستقبل السعودية ودورها الإقليمي.
أما الكيان الإسرائيلي فهو أيضاً يشهد أزمة داخلية للمرة الأولى منذ قيامه. وتعيش دولة الاحتلال الإسرائيلي على وقع خلاف سياسي منذ أعلن ياريف ليفين، وزير العدل في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 4 كانون الثاني/يناير 2023، عن "إصلاحات قضائية"، هي عملياً تعديلات واسعة تشمل تقليص صلاحيات المحكمة العليا وإعادة هيكلة الجهاز القضائي.
لقد أشعلت خطة ليفين، المدعومة من الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة، احتجاجات واسعة ومظاهرات، وأظهرت انقسامات حادة شملت قوات الاحتياط في الجيش، والنخبة الاقتصادية، ورجال السياسة والثقافة والأكاديمية، ومؤسسات المجتمع المدني. وبسبب تصاعد وتيرة الاحتجاجات التي ضمت عشرات الآلاف منذ 12 أسبوعاً وهو أمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ الكيان، عمد نتنياهو إلى تعليق خطته مؤقتاً إلى الشهر المقبل، من أجل تجنّب "الحرب الأهلية"، واصفاً الوضع بأنه أزمة "تهدّد الوحدة الوطنية". وهذا الأمر من الطبيعي أن تكون له تداعيات مهمة على مستوى الإقليم.
على صعيد آخر تعيش "إسرائيل" عدم استقرار سياسي حيث شهدت خمسة انتخابات خلال عامين وهي على التوالي: 9 نيسان/أبريل 2019، 17 أيلول/سبتمبر 2019، 2 آذار/مارس 2020، 23 آذار/مارس 2021، 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2022.
هذه العوامل ستبيّن مستقبل هذه القوى، على مستوى إيران كقوة إقليمية فاعلة، تمكّنت من أن تصبح فاعلاً إقليمياً، ومؤثّراً في النطاق العالمي بشكل نسبي. وقد ترجم ذلك إقليمياً من خلال دعم إيران حركات المقاومة، وهي أضحت دولة مؤثّرةً في العديد من ملفات المنطقة. فهي تدعم المقاومة في فلسطين، ولبنان، ولها تأثيرها في اليمن والعراق. كما أنها أدّت دوراً مهماً في مساعدة النظام في سوريا على الصمود في وجه "داعش"، ومؤخّراً شهدنا دعمها لروسيا بالمسيّرات، مما يوحي باستمرار تطوّر دورها.
أما تركيا فهي كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تتحكّم بالمنطقة إبّان الحراك الشعبي وتسلّم الإخوان السلطة في مصر ثم تونس، وتوسّع الرقعة نحو دول أخرى. لكنّ التجربة انتهت سريعاً، وهو ما شكّل انتكاسة لتركيا التي كانت تطمح لتأدية دور واسع، وهذا ما ستسهم في تحديده نتيجة الانتخابات المقبلة.
بالنسبة للسعودية من الواضح أنّها وانطلاقاً من متغيّرات الداخل، إلى جانب واقع الدول العربية غير المتماسك، عمدت مؤخّراً إلى تغيير رؤيتها لدورها في الإقليم، من هنا يمكن فهم اتفاقها مع إيران، وهذه المتغيّرات الداخلية إذا ما استمرت ستمكّن الرياض من تطوير دورها الإقليمي.
على مستوى الكيان الإسرائيلي، يبدو أنّه الأكثر تأثّراً بشكل سلبي على مستوى المتغيرات الداخلية التي تظهر هشاشة على مستوى مسار النظام السياسي، وعلى المستوى الشعبي. ومن الواضح أنّه في ظل التطوّر النوعي للمقاومة الفلسطينية في الداخل سيكون أمام مرحلة صعبة قد تسهم لاحقاً في إضعافه وربما تكون لها تداعيات سلبية كبيرة.
في المحصّلة نحن أمام حراك إقليمي داخلي سينتج حتماً مفاعيله على الدول الأربع المذكورة، وتفاعل العلاقات بين هذه الدول هو الذي سيحدّد مستقبل المنطقة والوجهة التي ستسير بها.