العقوبات الاقتصاديّة الغربيّة على روسيا وتبعاتها العكسيّة
العالم سيتغيّر حتماً، وبشكل جذريّ، لأنه أمام مفترق طرق، إما حرب عالمية ثالثة وإما تغييرات جذرية في النظام العالمي.
فرضت عدة دول غربية عقوبات اقتصادية على روسيا، في محاولةٍ للضغط عليها واحتوائها، ولكنَّ هذه العقوبات غير محسوبة النتائج، ما يكشف الحالة المتعثرة في التعامل مع مستجدات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتخبط الغربي، في ظلِّ تصاعد وتيرة الخطوات الروسية ميدانياً.
العامل المباشر المتسبّب بكل ذلك مرتبط برفض الغرب للمقترحات العملية الروسية، وخصوصاً احترام بنود اتفاقية مينسك الملزمة لأوكرانيا، التي استمرّت، بحسب الجانب الروسي، بخرق تعهداتها، كعدم حيادها وسعيها للانضمام إلى حلف الناتو، ما جعل روسيا تأخذ بحلول لم تكن تفضّلها منذ البداية.
وبناءً عليه، سيتجه العالم نحو تغير إلزامي على جميع الصعد، فمن كان قوياً متفرداً بزمام الأمور الدولية والإقليمية أصبح متفرجاً، وبخيارات أفضلها مر، والسؤال المهم هنا: هل سيتجرأ أحد أو سيحاول الرد عسكرياً على روسيا القوية؟
طبعاً، الخيار العسكري ضدّ روسيا مستبعد تماماً، لأنها دولة قوية ويُحسب لها ألف حساب، وتحركها الأخير محسوب، وقدراتها الردعية حالت دون تحرك حلف الناتو، الذي كان يتدخَّل كثيراً، وبشكل سريع، في دول أخرى لا تمتلك قدراتٍ للدفاع والردع، على غرار ليبيا والعراق وسوريا.
أما محاولات العقاب الاقتصادي التي أعلنتها عواصم غربية، فهي سلاح ذو حدين، لأنها ستأتي بعواقب عكسية على اقتصاديات الدول الغربية نفسها التي لن تستطيع الصمود اجتماعياً وسياسياً أبداً أمام ما تمليه بعض العواصم الغربية البعيدة والمحصّنة اقتصادياً في مجالات الطاقة والمعاملات التجارية والمالية، مقارنة بدول غربية أخرى لا يمكنها أن تتحمَّل انقطاع الغاز الروسي أو تعليق عمل روسيا بنظام "سويفت"، وخصوصاً أن التكاليف الاقتصادية التي من المفترض أن تقع على روسيا سرعان ما ستثقل كاهل الدول الغريبة، وبشكل متفاوت، ما سيقوّض مفهوم التوافق والتضامن الغربي.
والبداية ستكون من ألمانيا التي ظلمها الغرب بقراره فرض عقوبات على روسيا، لأن هذه العقوبات ستشكل عائقاً أمام الاقتصاد الألماني في مجالات كثيرة، كالطاقة والتحويلات المالية ومختلف المبادلات التجارية، كذلك تركيا التي لن تكون مرتاحة لقرارات كهذه، بل ستستغل الوضع لتثبيت مصالحها شرقاً مع روسيا، وخصوصاً أنها من دول حلف الناتو التي لم تتمكّن من الاندماج اقتصادياً مع أوروبا الغربية.
والأكثر تعقيداً في ملف التبعات الاقتصادية العكسية الناجمة عن العقوبات الغربية هو الغاز الروسي الّذي يمثل 40% من الاستهلاك الأوروبي، وتحديداً لكلٍّ من ألمانيا وتركيا وإيطاليا ورومانيا وبولندا وصربيا وفنلندا وبلغاريا واليونان، إضافةً إلى كلّ ما يرتبط بذلك من تعاظم تكاليف الصناعة بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية عالمياً.
أما مشكلة القمح، فهي من التحدّيات الكبيرة لدول عربية كثيرة ستفقد مع هذه الحرب مصادر تموينها، نظراً إلى أنها ترتبط بروسيا وأوكرانيا بنسبة تفوق 80%، إذ يغطي البلدان ما يفوق 25% من صادرات القمح عالمياً.
إذاً، إنَّ تعويض كلّ هذه الإمدادات صعب جداً ومكلف وغير ممكن في الوقت الحالي، بخلاف روسيا الَّتي تملك الكثير من الخيارات الاقتصادية، وأهمها اتفاقيات التعاون مع الصين، باعتبارها قوة اقتصادية، وستكون المستفيد الأكبر من هذه الحرب وما يتبعها من خلافات اقتصادية.
أمّا إلغاء نظام "سويفت" للمعاملات المالية مع روسيا، فسيعود بالضرر على دول كثيرة، ما سيجعل الغرب في حالة انقسام مبرراته قوية، وتداعياته ستمهّد الطريق نحو مراجعة حتمية للنظام العالمي وهيئاته الأممية، وحتى الأحلاف العسكرية ستعود، وبالحسابات التقليدية، ما لم تتسع رقعة الحرب جغرافياً.
والخلاصة أنَّ العالم سيتغيّر حتماً، وبشكل جذريّ، لأنه أمام مفترق طرق، إما حرب عالمية ثالثة وإما تغييرات جذرية في النظام العالمي. وبين الخيارين، ستظهر إلى العلن أحلاف عسكرية، في ظل ترقب نتائج المعارك التي تدور رحاها في أوكرانيا.