"الصورةُ قصّة".. حين تغدو الصور تاريخاً وذاكرة
بين الرقة وكلٍ من حلب ودمشق وأريافهما، والساحل السوري والمنطقة الوسطى، وصولاً إلى وسط البادية السورية في تدمر، يقدم وثائقي "الصورة قصة" مجموعةً من الحكايات المؤثرة على لسان أبطال الصور والضحايا.
في سباق التوثيق والتأثير، تحجز الصورة لنفسها المكان المتقدّم، متفوقةً على الكلمة. تُحسن الصورة التصرف أكثر من أيّ رواية، فتنطق بآلاف الكلمات. وقد تهز صورةٌ واحدةٌ العالمَ بأسره من دون الحاجة إلى اللغة التي قد يحاول كاتبُ النص من خلالها وصف المشهد البادي في الصور فقط.
وقد تكون ضغطة واحدة على زر الكاميرا قادرة على اختصار الواقع والأحداث، وأحياناً رواية التاريخ. وفي الحروب، تغدو الصورة التوثيقَ الأهم للحدث. تشعل المقاومةَ أحياناً صورة، وقد تطفئ الحربَ صورة. حينها، تتحول الصورة نفسها إلى ذاكرة تاريخية.
ليست الحرب السورية استثناءً في الحروب، فقد حفرت الصور اللانهائية الملتقطة عميقاً في ضمير السوريين ووجدانهم وذاكرتهم، كما لم يفعل أي نص، حتى يكاد يكون ممكناً اختصار عقد الحرب السورية بأكمله في سلسلة صور وثقت معارك ومجازر ومحطاتٍ غيرت مسار الحرب ونتائجها. وقد حازت بعض صور الحرب السورية تصنيفاتٍ ضمن أهم الصور التي توثق العقد الماضي على مستوى العالم.
لكن الصورة، وإن خُلِّدت في الذاكرة، فإنّ قصتها قد تُنسى، فتضيع الحقائق، وتلتبس مع مرور السنين، وتتعدد روايات التاريخ غداً.
انطلاقاً من ذلك، تختار السلسلة الوثائقية "الصورة.. قصة" الصور العشر الأكثر تأثيراً وثباتاً في ذاكرة السوريين كلّهم على اختلاف مواقعهم ومواقفهم من الحرب، فتحكي قصة كل صورة، عبر الانتقال إلى مكان حدوثها والبحث عن الشهود والروايات على لسان أصحاب المكان وأبناء الأرض، وأحياناً البحث عن المصوّر إن أمكن ذلك.
لم يكن اختيار الصور العشر مهمة سهلة، في ظل وجود ملايين الصور التي وثقت الحرب، فضلاً عن الإمكانية الفعلية لتوثيق حكاية كل صورة، وهو ما فرض علينا السفر المتواصل على مدى شهر كامل، والذي لم نوفر خلاله جهداً في محاولة الوصول إلى أي مكان، مهما كان الأمر صعباً أو خطراً بين أغلب المدن والمناطق السورية، وصولاً إلى مناطق الشرق السوري التي كان دخولها أشبه بمجازفةٍ كبرى.
بين الرقة وكلٍ من حلب ودمشق وأريافهما، والساحل السوري والمنطقة الوسطى، وصولاً إلى وسط البادية السورية في تدمر، يقدم العمل مجموعة من الحكايات المؤثرة على لسان أبطال الصور وضحاياها. قد لا يكون من المبالغة القول إن كل ما جمع من حكايات جرت خلال فترات متفرقة من الحرب، وفي أماكن متفرقة، يمكنه أن تختصر معظم محطات الحرب السورية وأكثرها قسوةً وتأثيراً.
شهادات حقيقية وصادمة لأشخاص عاشوا الحرب حقاً، ولم يخبرهم عنها أحد. شهادات يُعرض بعضها لأول مرة منذ 10 سنوات، وشهادات قد يصعب تصديقها لشدة قسوتها. "داعش" في الرقة وتدمر. حصار بعض القطعات العسكرية وسقوطها. أكبر عمليات التهجير الجماعي التي حدثت. التقسيم والجوع والحصار... وكيفية انعكاس كل ذلك على واقع الطفولة اليوم. صفحات طويت، وأخرى لا تزال مفتوحة، وفصول قد لا تطوى أبداً.
لكنَّ الأهم هو تقديم كل ذلك في إطار إنساني محايد، بعيداً عن حسابات السياسة والمكان والجغرافيا. يفرد العمل المساحة للجميع ليقدموا روايتهم للأحداث من دون تسييس أو محاكمة، ومن دون الانتصار لطرف سوى الإنسانية.
ولعل المفارقة هنا هي ما لفت إليه مخرج أجنبي التقيناه في تدمر. قال لنا إن الصور العشر التي نوثق حكاياتها ليست الأكثر ثباتاً في ذاكرة السوريين فحسب، فقد كان لها صداها حول العالم أيضاً، وهو ما يخرج العمل من إطار عمل توثيقي محلّي في بلدٍ ما، إلى عمل قد يهم جميع الذين رأوا صور الحرب السورية وتفاعلوا معها على مستوى العالم.
تنتهي الحروب، ويبدأ العمل على توثيقها. المهمة صعبة؛ فتوثيق اليوم هو تشكيل لمخزون الغد من ذاكرة نقدمها للأجيال المقبلة، لكنني أرجو أن تنتهي الحروب حقاً؛ الحروب التي لا تزال تُراق فيها دماء، ويسقط فيها ضحايا أبرياء. لا تريد الصحافة الحقيقية أن تصنع مادة من خلال الصور المرعبة والقاسية التي لا تمحوها السنين، بل تطمح لتوثيق تاريخ بلا فجائع.