الرد الإيراني في ميزان القانون الدولي
إن الاستهداف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق وتدميرها بشكل تام والتسبب بمقتل مستشارين إيرانيين داخلها شكّل انتهاكاً واضحاً للسيادة الإيرانية ولاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية للعام 1961 واتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية للعام 1963.
لم يكن الاستهداف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق مطلع الشهر الجاري الأول من نوعه لناحية الاعتداءات التي طالت الدبلوماسيين أو المقار الدبلوماسية والقنصلية منذ توقيع اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961، إلا أن تداعيات هذا الاستهداف جعلت منه نقطة تحوّل في مسار الصراع مع العدو الإسرائيلي الذي اعتاد أن يتجاوز كل الخطوط والمحرّمات من دون أي رادع، في ظل القيادة الأحادية للنظام الدولي من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
وانطلاقاً من أهمية هذا التحوّل وتداعياته، ولا سيّما لناحية فتح احتمالات المواجهة الشاملة في المنطقة، يصبح من الضروري البحث في طبيعة الرد الإيراني على مستوى القانون الدولي الذي تعرّض لانتكاسة كبرى في ضوء العدوان الصهيوني على قطاع غزة.
إن الاستهداف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق وتدميرها بشكل تام والتسبب بمقتل مستشارين إيرانيين داخلها شكّل انتهاكاً واضحاً للسيادة الإيرانية ولاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية للعام 1961 واتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية للعام 1963، وهما من المعاهدات الشارعة، التي هدفت أطرافها إلى سن قواعد دولية جديدة لتنظيم العلاقات بين الدول، إذ تضمنتا قواعد دبلوماسية دولية شاملة، بعضها يتعلق بحصانة مقار البعثات الدبلوماسية والقنصلية، التي تشمل بحسب الاتفاقية المباني وأجزاء المباني والأراضي الملحقة بها التي تستعملها البعثة، كما تشمل مقر إقامة رئيس البعثة وما يتعلق بالمبعوثين الدبلوماسيين والقنصليين الذين يتمتعون بحماية مزدوجة تنبثق جذورها من قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 واتفاقية فيينا أشارت إلى تأمين الحماية اللازمة للمبعوثين الدبلوماسيين ومقارهم، فالحماية التي يتمتع بها هؤلاء تبقى موجودة حتى في ظل النزاعات المسلحة، ما يوجب على الدول المتحاربة الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني، واعتبار المبعوثين الدبلوماسيين من المدنيين الذين يتمتعون بحماية اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 حماية خاصة، وتصنيف مقار البعثات الدبلوماسية من الأعيان المدنية التي يمنع أن تكون أهدافاً للعمليات العسكرية.
ولتثبيت هذه الحماية، تم وضع آليات لإقامة المسؤولية الدولية الناجمة عن تلك الانتهاكات بحق أعضاء البعثات ومقارها، إضافة إلى اتفاقية العام 1973 للمعاقبة على الجرائم ضد الأشخاص المتمتعين بحماية دولية، بما يشمل الموظفين الدبلوماسيين.
إن انتهاك سيادة الدولة وقواعد القانون الدولي يمنح الدولة المعتدى عليها حق الدفاع المشروع عن النفس، وهو حق كفلته قواعد هذا القانون وميثاق الأمم المتحدة؛ ففي مقابل انتهاك هذه القواعد، لا سيّما عبر خرق المادة 2 – فقرة 4 من الميثاق التي تنص على أن "أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية يمتنعون عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة، فقد أعطى الميثاق نفسه في المادة 51 منه حق الدفاع للدول التي تتعرض للاعتداء على سيادتها من أي قوة مسلحة، وذلك عندما أشارت هذه المادة إلى أنه "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي...".
كما أشارت المادة نفسها إلى أن التدابير التي اتخذتها الدولة للدفاع عن نفسها تبلغ لمجلس الأمن، الذي يبقى له بمقتدى سلطته ومسؤولياته المستمرة الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يراه ضرورة لحفظ السلم والأمن الدولي.
أمام هذا الواقع القانوني، وبناء عليه، كان من حق الجمهورية الاسلامية الإيرانية اللجوء إلى خيار الدفاع عن النفس منذ لحظة استهداف قنصليتها في دمشق لردع العدوان الصهيوني على سيادتها، لكن رغم ذلك فهي لم تستعجل الرد باستخدام هذا الحق، بل عمدت إلى اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي عبر إخطاره بالاعتداء لتضعه أمام مسؤولياته في تطبيق الميثاق وقواعد القانون الدولي لحفظ السلم والأمن الدولي في الشرق الأوسط.
وأمام تلكؤ مجلس الأمن في القيام بواجباته ورفض كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا إصدار بيان من مجلس الأمن للصحافة والإعلام يدين الخرق الإسرائيلي للقواعد الدولية، كما حدث في حالات سابقة مشابهة، لعل أبرزها موقف مجلس الأمن في مايو/أيار 1999 عند استهداف حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية السفارة الصينية في بلغراد، إذ أصدر المجلس حينها بياناً أشار فيه إلى أن "أعضاء مجلس الأمن أعربوا عن صدمتهم وقلقهم بشأن الضحايا والأضرار نتيجة للصواريخ التي أصابت السفارة الصينية والعاملين فيها في جمهورية يوغسلافيا الاتحادية... وذلك رغم إرسال الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون حينها برقية إلى الرئيس الصيني جيانغ زيمين يبلغه فيها أسفه على تلك العملية، إضافة إلى البيانات المشابهة الصادرة عن وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، ورغم رد الفعل الشعبي الصيني الذي أدى إلى إحراق القنصلية الأميركية في شانغ دو واستهداف الطلاب للسفارة الأميركية في بكين خلال الاحتجاجات الشعبية.
انطلاقاً مما تقدم، كان لا بد للجمهورية الإسلامية من أن تلجأ إلى استخدام حقها بالدفاع المشروع عن سيادتها المنتهكة، لا سيّما أنها قادرة على ذلك، فعمدت إلى استدعاء السفير السويسري في طهران باعتباره ممثلاً للمصالح الأميركية في إيران، وتواصل وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان مع وزير الخارجية البريطاني وبعض السفراء الغربيين وسفراء دول في المنطقة لإبلاغهم بعزم إيران على الرد.
إن سلوك الجمهورية الاسلامية الإيرانية تجاه انتهاك سيادتها راعى إلى أبعد الحدود القواعد الدولية وميثاق الأمم المتحدة، فشكّل بذلك نموذجاً جديداً في كيفية التعامل مع الانتهاكات الصهيونية لأمن المنطقة وحقوق شعوبها، ومع هذا النوع من التجاوز لقواعد القانون الدولي التي تمثل انتهاكاً لسيادة الدول، وذلك وفقاً للمبادئ والآليات التي أقرها القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ومنحها للدول التي تتعرض سيادتها للانتهاك. لذلك، بدا واضحاً أن الجمهورية الاسلامية الإيرانية حرصت على الالتزام بقواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة في إعدادها وتحضيرها للرد، كما في تنفيذه، بحيث لم تعمد إلى استهداف المدنيين، بل اكتفت باستهداف القواعد العسكرية التي انطلقت منها الطائرات الإسرائيلية لقصف المقر القنصلي الإيراني في دمشق.